التفاسير

< >
عرض

أُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمُ ٱلنَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
٨
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ
٩
-يونس

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ أُوْلَـٰئِكَ } الموصوفون بما ذكر من صفات السوء { مَأْوَاهُمُ } أي مسكنُهم ومقرُّهم الذي لا بَراحَ لهم منه { ٱلنَّارِ } لا ما اطمأنوا بها من الحياة الدنيا ونعيمُها { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } من الأعمال القلبـيةِ المعهودةِ وما يستتبعه من أصناف المعاصي والسيئاتِ أو بكسبهم إياها، والجمعُ بـين صيغتي الماضي والمستقبل للدِلالة على الاستمرار التجددي والباء متعلقةٌ بمضمون الجملةِ الأخيرةِ الواقعةِ خبراً عن اسم الإشارةِ وهو مع خبرِه خبرٌ لإن في قوله تعالى: { إَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } الخ.

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } أي فعلوا الإيمانَ أو آمنوا بما يشهَد به الآياتُ التي غفَل عنها الغافلون أو بكل ما يجب أن يؤمَنَ به فيندرجُ فيه ذلك اندراجاً أولياً { وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } أي الأعمالَ الصالحةَ في أنفسها اللائقةَ بالإيمان، وإنما تُرك ذكرُ الموصوف لجريانها مَجرى الأسماءِ { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ } أُوثر الالتفاتُ تشريفاً لهم بإضافة الربِّ وإشعاراً بعلة الهِداية { بِإِيمَانِهِمْ } أي يهديهم بسبب إيمانِهم إلى مأواهم ومقصِدِهم وهي الجنةُ، وإنما لم تُذكر تعويلاً على ظهورها وانسياقِ النفسِ إليها لا سيما بملاحظة ما سبق من بـيان مأوىٰ الكفَرة وما آواهم إليه من أعمالهم السيئةِ ومشاهدةِ ما لحق من التلويح والتصريحِ، وفي النظم الكريم إشعارٌ بأن مجردَ الإيمانِ والعملِ الصالحِ لا يكفي في الوصول إلى الجنةَ بل لا بد بعد ذلك من الهداية الربانية وأن الكفرَ والمعاصيَ كافيةٌ في دخول النارِ ثم إنه لا نزاعَ في أن المرادَ بالإيمان الذي جعل سبباً لتلك الهداية هو إيمانُهم الخاصُّ المشفوعُ بالأعمال الصالحةِ لا الإيمانُ المجردُ عنها ولا ما هو أعمُّ منهما، إلا أن ذلك بمعزل عن الدِلالة على خلاف ما عليه أهلُ السنةِ والجماعة من أن الإيمانَ الخاليَ عن العمل الصالحِ يُفضي إلى الجنة في الجملة ولا يخلّد صاحبُه في النار فإن منطوقَ الآيةِ الكريمةِ أن الإيمانَ المقرونَ بالعمل الصالحِ سببٌ للهداية إلى الجنة، وأما أن كلَّ ما هو سببٌ لها يجب أن يكون كذلك فلا دلالةَ لها ولا لغيرها عليه قطعاً، كيف لا وقولُه عز وجل: { ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱلأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } [الأنعام: 82] منادٍ بخلافه فإن المرادَ بالظلم هو الشركُ كما أطبق عليه المفسرون والمعنى لم يخلِطوا إيمانَهم بشرك، ولئن حُمل على ظاهره أيضاً يدخُل في الاهتداء من آمن ولم يعمل صالحاً ثم مات قبل أن يظلم بفعل حرامٍ أو بترك واجب { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَـٰرُ } أي بـين أيديهم كقوله سبحانه: { { وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَـٰرُ تَجْرِى مِن تَحْتِى } [الزخرف: 51] وهم على سرر مرفوعةٍ وأرائِكَ مصفوفةٍ، والجملةُ مستأنفةٌ أو خبرٌ ثانٍ لإن أو حالٌ من مفعول يهديهم على تقدير كون المهديِّ إليه ما يريدونه في الجنة كما قيل، وقيل: يهديهم ويسدّدهم للاستقامة على سلوك السبـيلِ المؤدي إلى الثواب والجنة، وقوله: { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَـٰرُ } جارٍ مجرى التفسيرِ والبـيان فإن التمسكَ بحبل السعادةِ في حكم الوصولِ إليها وقيل: يهديهم إلي إدراك الحقائقِ البديعةِ بحسب القوةِ العملية كما قال عليه الصلاة والسلام: "من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم" { فِي جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ } خبر آخر أو حال أخرى منه أو من الأنهار أو متعلق بتجري أو بـيهدي فالمراد بالمهدى إليه إما منازلهم في الجنة أو ما يريدونه فيها.