التفاسير

< >
عرض

فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ ٱللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ
١٤
-هود

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } أي لم يفعلوا ما كُلِّفوه من الإتيان بمثله كقوله تعالى: { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } [البقرة: 24, 279] وإنما عُبِّر عنه بالاستجابة إيماءً إلى أنه عليه الصلاة والسلام على كمال أمنٍ من أمره، كأن أمرَه لهم بالإتيان بمثله دعاءٌ لهم إلى أمر يريد وقوعَه، والضميرُ في لكم للرسول عليه الصلاة والسلام والجمعُ للتعظيم كما في قول من قال:

فإن شئتِ حرَّمْتُ النساءَ سواكمُ وإن شئتِ لم أطْعَمْ نقاخاً ولا بَرْداً

أوْ له وللمؤمنين لأنهم أتباعٌ له عليه الصلاة والسلام في الأمر بالتحدّي، وفيه تنبـيهٌ لطيفٌ على أن حقَّهم ألا ينفكوا عنه عليه الصلاة والسلام ويناصِبوا معه لمعارضة المعارِضين كما كانوا يفعلونه في الجهاد وإرشادٌ إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخَ في الإيمان والطُمأنينةَ في الإيقان، ولذلك رُتّب عليه قولُه عز وجل: { فَٱعْلَمُواْ } أي اعلموا حين ظهر لكم عجزُهم عن المعارضة مع تهالُكهم عليها علماً يقيناً متاخِماً لعين اليقينِ بحيث لا مجالَ معه لشائبة ريبٍ بوجه من الوجوه، كأن ما عداه من مراتب العلمِ ليس بعلم لكن لا للإشعار بانحطاطِ تلك المراتبِ بل بارتفاع هذه المرتبةِ وبه يتّضح سرُّ إيرادِ كلمةِ الشكِّ مع القطعِ بعدم الاستجابةِ فإن تنزيلَ سائرِ المراتبِ منزلةَ العدمِ مستتبِعٌ لتنزيل الجزْمِ بعدم الاستجابةِ منزلةَ الشكِّ فيه، أو اثبُتوا واستمِرّوا على ما كنتم عليه من العلم { إِنَّمَا أُنزِلَ } ملتبساً { بِعِلْمِ ٱللَّهِ } المخصوصِ به بحيث لا تحوم حوله العقولُ والأفهامُ مستبداً بخصائصِ الإعجازِ من جهتي النظمِ الرائقِ والإخبار بالغيب { وَأَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي واعلموا أيضاً ألا شريكَ له في الألوهية وأحكامِها ولا يقدِر على ما يقدر عليه أحدٌ { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } أي مخلصون في الإسلام أو ثابتون عليه؟ وهذا من باب التثبـيتِ والترقيةِ إلى معارج اليقينِ، ويجوز أن يكونَ الخطابُ في الكل للمشركين من جهة الرسولِ صلى الله عليه وسلم داخلاً تحت الأمر بالتحدّي، والضميرُ في لم يستجيبوا لمن استطعتم أي فإن لم يستجبْ لكم آلهتُكم وسائرُ مَنْ إليهم تجأرون في مُهمّاتكم ومُلماتكم إلى المعاونة والمظاهَرَةِ فاعلموا أن ذلك خارجٌ عن دائرة قُدْرةِ البشر وأنه مُنزّلٌ من خالق القُوى والقدر، فإيرادُ كلمةِ الشكِّ حينئذ مع الجزم بعدمِ الاستجابة من جهة آلهتِهم تهكّمٌ بهم وتسجيلٌ عليهم بكمال سخافةِ العقلِ، وترتيبُ الأمرِ بالعلم على مجرد عدمِ الاستجابة من حيث إنه مسبوقٌ بالدعاء المسبوقِ بعجزهم واضطرارِهم فكأنه قيل: فإن لم يستجيبوا لكم عند التجائِكم إليهم بعد ما اضطُررتم إلى ذلك وضاقت عليكم الحيلُ وعيَّتْ بكم العللُ أو من حيث إن مَنْ يستمدّون بهم أقوى منهم في اعتقادهم، فإذا ظهر عجزُهم بعدم استجابتِهم وإن كان ذلك قبلَ ظهورِ عجزِ أنفِسهم يكون عجزُهم أظهرَ وأوضحَ، واعلموا أيضاً أن آلهتَكم بمعزل عن رتبة الشِرْكة في الألوهية وأحكامِها فهل أنتم داخلون في الإسلام إذْ لم يبْقَ بعدُ شائبةُ شبهةٍ في حقِّيته وفي بُطلان ما كنتم فيه من الشرك فيدخُلُ فيه الإذعانُ لكون القرآنِ من عند الله تعالى دخولاً أولياً أو منقادون للحق الذي هو كونُ القرآنِ من عند الله تعالى وتاركون لما كنتم فيه من المكابرة والعِناد، وفي هذا الاستفهامِ إيجابٌ بليغٌ لما فيه من معنى الطلب والتنبـيهِ على قيام الموجبِ وزوالِ العذر وإقناطٌ من أن يجبُرَهم آلهتُهم من بأس الله عز سلطانُه، هذا والأول أنسبُ لما سلف من قوله تعالى: { { وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } [هود: 12] ولما سيأتي من قوله تعالى: { { فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ } [هود: 17] وأشدُّ ارتباطاً بما يعقُبه كما ستحيط به خُبراً.