التفاسير

< >
عرض

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أُوْلَـٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ
١٨
ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
١٩
أُولَـٰئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ
٢٠
-هود

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } بأن نسَب إليه ما لا يليق به كقولهم للملائكة بناتُ الله تعالى الله عن ذلك علواً كبـيراً وقولِهم لآلهتهم: { هَـؤُلاء شُفَعَـٰؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18] يعني أنهم مع كفرهم بآيات الله تعالى مفترون عليه كذباً، وهذا التركيُب وإن كان سبكُه على إنكار أن يكون أحدٌ أظلمَ منهم من غير تعرضٍ لإنكار المساواةِ ونفيِها ولكنّ المقصودَ به قصداً مطرداً إنكارُ المساواةِ ونفيُها وإفادةُ أنهم أظلم من كل ظالمٍ كما ينبىء عنه ما سيتلى من قوله عز وجل: { { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى ٱلأَخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ } [هود: 22] فإذا قيل: مَنْ أكرمُ من فلان أو لا أفضلَ منه فالمرادُ منه حتماً أنه أكرمُ من كل كريمٍ وأفضلُ من كل فاضل { أُوْلَـٰئِكَ } الموصوفون بالظلم البالغِ الذي هو الافتراءُ على الله تعالى، وبهذه الإشارة حصَلت الغُنيةُ عن إسناد العَرضِ إلى أعمالهم واكتُفي بإسناده إليهم حيث قيل: { يُعْرَضُونَ } لأن عرضَهم من تلك الحيثيةِ وبذلك العنوانِ عرضٌ لأعمالهم على وجهٍ أبلغَ فإن عرضَ العاملِ بعمله أفظعُ من عرض عملِه مع غَيْبته { عَلَىٰ رَبّهِمْ } الحقِّ، وفيه إيماءٌ إلى بطلان رأيِهم في اتخاذهم أرباباً من دون الله عز وجل { وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ } عند العَرْض من الملائكة والنبـيـين أو من جوارحهم وهو جمعُ شاهد أو شهيد كأصحاب وأشراف { هَـؤُلاء ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبّهِمْ } بالافتراء عليه كأن ذلك أمرٌ واضحٌ غنيٌّ عن الشهادة بوقوعه، وإنما المحتاجُ إلى الشهادة تعيـينُ مَنْ صدر عنه ذلك فلذلك لا يقولون: هؤلاء كذبوا على ربهم ويجوز أن يكون المرادُ بالأشهاد الحضّارَ وهم جميعُ أهلِ الموقفِ على ما قاله قتادة ومقاتل ويكون قولُهم: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ذماً لهم بذلك لا شهادةً عليهم كما يُشعر به قوله تعالى: { وَيَقُولُ } دون { وَيُشْهِدُ } الخ، وتوطئةً لما يعقُبه من قوله تعالى: { أَلاَ لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ } بالافتراء المذكورِ ويجوز أن يكون هذا على الوجه الأولِ من كلام الله تعالى وفيه تهويلٌ عظيمٌ لما يحيق بهم من عاقبة ظلمِهم اللهم إنا نعوذُ بك من الخِزْي على رؤوس الأشهادِ { ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ } أي كلَّ من يقدِرون على صدّه أو يفعلون الصد { عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } عن دينه القويمِ { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } انحرافاً أي يصفونها بذلك وهي أبعدُ شيءٍ منه أو يبغون أهلَها أن ينحرفوا عنها يقال: بغَيتك خيراً أو شراً أي طلبتُ لك، وهذا شاملٌ لتكذيبهم بالقرآن وقولِهم إنه ليس من عند الله { وَهُمْ بِٱلأَخِرَةِ هُمْ كَـٰفِرُونَ } أي يصِفونها بالعِوَج والحالُ أنهم كافرون بها لا أنهم يؤمنون بها ويزعُمون أن لها سبـيلاً سوياً يهدون الناسَ إليه، وتكريرُ الضمير لتأكيد كفرِهم واختصاصِهم به كأن كفرَ غيرِهم ليس بشيء عند كفرهم { أُوْلَـٰئِكَ } مع ما وُصف من أحوالهم الموجيةِ للتدمير { لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ } الله تعالى مُفْلِتين بأنفسهم من أخذه لو أراد ذلك { فِى ٱلأَرْضِ } مع سَعتها وإن هربوا منها كل مَهْرب.

{ وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء } ينصُرونهم من بأسه ولكن أُخِّر ذلك لحكمة تقتضيه، والجمعُ إما باعتبار أفراد الكفَرة كأنه قيل: وما كان لأحد منهم من وليَ أو باعتبار تعدّدِ ما كانوا يدعون من دونه الله تعالى فيكون ذلك بـياناً لحال آلهتِهم من سقوطها عن رتبة الولاية { يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ } استئنافٌ يتضمن حكمةَ تأخيرِ المؤاخذة وقرأ ابنُ كثير، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ بالتشديد { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ } لفَرْط تصامِّهم عن الحق وبُغضِهم له كأنهم لا يقدرون على السمع، ولما كان قبحُ حالِهم ـ في عدم إذعانِهم للقرآن الذي طريقُ تلقّيه السمعُ ـ أشدَّ منه في عدم قَبولِهم لسائر الآياتِ المنوطةِ بالإبصار، بالغَ في نفي الأولِ عنهم حيث نفىٰ عنهم الاستطاعةَ واكتفىٰ في الثاني بنفي الإبصارِ فقال تعالى: { وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } لتعاميهم عن آيات الله المبسوطةِ في الأنفس والآفاقِ وهو استئنافٌ وقع تعليلاً لمضاعفة العذابِ وقيل: هو بـيانٌ لما نُفي من ولاية الآلهةِ فإن ما لا يسمع ولا يُبصر بمعزل من الولاية، وقوله تعالى: { يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ } اعتراضٌ وسِّط بـينهما نعياً عليهم من أول الأمرِ سوءَ العاقبة.