التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ يٰنُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٣٢
قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ
٣٣
وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٣٤
-هود

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ قَالُواْ يا نُوحٌ قَدْ جَادَلْتَنَا } خاصمتنا { فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } أي أطَلْته أو أتيتَه بأنواعه فإن إكثارَ الجدالِ يتحقق بعد وقوعِ أصلِه فلذلك عُطف عليه بالفاء أو أردتَ ذلك فأكثرتَه كما في قوله تعالى: { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } [النحل: 98] ولما حجّهم عليه الصلاة والسلام وأبرز لهم بـيناتٍ واضحةَ المدلولِ وحُججاً تتلقاها العقولُ بالقَبول وألقمهم الحجرَ برد شُبهِهم الباطلةِ ضاقت عليهم الحيلُ وعيّت بهم العللُ وقالوا: { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } من العذاب المعجّلِ أو العذابِ الذي أشير إليه في قوله: { { إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } [هود: 26] على تقدير أن لا يكون المرادُ باليوم يومَ القيامة { إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ } فيما تقول { قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَاء } يعني أن ذلك ليس موكولاً إليّ ولا هو مما يدخُل تحت قدرتي وإنما يتولاه الله الذي كفرتم به وعصيتموه يأتيكم به عاجلاً أو آجلاً إنْ تعلَّق به مشيئتُه التابعةُ للحكمة، وفيه ما لا يخفى من تهويل الموعودِ فكأنه قيل: الإتيانُ به أمرٌ خارجٌ عن دائرة القُوى البشرية وإنما يفعله الله عز وجل.

{ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } بالهرب أو بالمدافعة كما تدافعونني في الكلام { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى } النُصحُ كلمةٌ جامعةٌ لكل ما يدور عليه الخيرُ من قول أو فعل، وحقيقتُه إمحاضُ إرادةِ الخيرِ والدِلالةِ عليه، ونقيضُه الغشُّ وقيل: هو إعلامُ موقع الغَيِّ ليُتّقى وموضعِ الرشد ليُقْتَفىٰ { إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ } شرطٌ حذف جوابُه لدلالة ما سبق عليه، والتقديرُ إن أردتُ أن أنصحَ لكم لا ينفعُكم نُصحي وهذه الجملةُ دليلٌ على ما حذف من جواب قولِه تعالى: { إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } والتقديرُ إن كان يريد أن يُغوِيَكم فإن أردتُ أن أنصحَ لكم لا ينفعكم نصحي، هذا على ما ذهب إليه البصريون من عدم تقديم الجزاءِ على الشرطِ، وأما على ما ذهب إليه الكوفيون من جوازه فقوله عز وعلا: { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى } جزاءٌ للشرط الأولِ، والجملةُ جزاءٌ للشرط الثاني وعلى التقديرين فالجزاءُ متعلّقٌ بالشرط الأولِ وتعلّقه به معلّقٌ بالشرط الثاني، وهذا الكلامُ متعلِّقٌ بقولهم: { قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } صدر عنه عليه الصلاة والسلام إظهاراً للعجز عن إلزامهم بالحجج والبـيناتِ لتماديهم في العناد، وإيذاناً بأن ما سبق منه ليس بطريق الجدالِ والخصامِ بل بطريق النصيحةِ لهم والشفقةِ عليهم وبأنه لم يألُ جهداً في إرشادهم إلى الحق وهدايتِهم إلى سبـيله المستبـينِ وإمحاضِ النصحِ لهم ولكن لا ينفعهم ذلك عند إرادة الله تعالى لإغوائهم، وتقيـيدُ عدمِ نفع النصحِ بإرادته مع أنه محققٌ لا محالة للإيذان بأن ذلك النصحَ منه مقارِنٌ للإرادة والاهتمامِ به ولتحقيق المقابلةِ بـين ذلك وبـين ما وقع بإزائه من إرادته تعالى لإغوائهم، وإنما اقتُصر في ذلك على مجرد إرادةِ الإغواءِ دون نفسِه حيث لم يقل: إن كان الله يغويكم مبالغةً في بـيان غلبةِ جنابِه عز وعلا حيث دل ذلك على أن نُصحَه المقارِنَ للاهتمام به لا يُجديهم عند مجردِ إرادةِ الله سبحانه لإغوائهم، فكيف عند تحقيقِ ذلك وخلقِه فيهم. وزيادةُ كان للإشعار بتقدم إرادتِه تعالى زماناً كتقدّمها رتبةً وللدلالة على تجدّدها واستمرارِها، وإنما قُدّم على هذا الكلامِ ما يتعلق بقولهم: { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } من قوله تعالى: { إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَاء } رداً عليهم من أول الأمرِ وتسجيلاً عليهم بحلول العذابِ مع ما فيه من اتصال الجوابِ بالسؤال، وفيه دليلٌ على أن إرادتَه تعالى يصِحّ تعلقُها بالإغواء وأن خلافَ مرادِه غيرُ واقع، وقيل: معنى أن يغويَكم يُهلكَكم، من غوَى الفصيلُ غوًى إذا بشِم وهلك { هُوَ رَبُّكُمْ } خالقُكم ومالكُ أمركم { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجازيكم على أعمالكم لا محالة.