التفاسير

< >
عرض

أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ
٣٥
وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
٣٦
وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ
٣٧
-هود

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني نوحاً عليه الصلاة والسلام، ومعناه بل أيقولُ قومُ نوحٍ إن نوحاً افترى ما جاء به مسنِداً إياه إلى الله عز وجل { قُلْ } يا نوح { إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ } بالفرض البحْت { فَعَلَىَّ إِجْرَامِى } إثمي ووبالُ إجرامي وهو كسبُ الذنب وقرىء بلفظ الجمع، وينصُره أن فسّره الأولون بآثامي { وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تُجْرَمُونَ } من إجرامكم في إسناد الافتراءِ إليّ، فلا وجهَ لإعراضكم عني ومعاداتِكم لي. وقال مقاتلٌ: يعني محمداً عليه الصلاة والسلام ومعناه بل أيقولُ مشركو مكةَ افترى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خبرَ نوحٍ فكأنه إنما جيء به في تضاعيف القصةِ عند سَوْق طرفٍ منها تحقيقاً لحقيتها وتأكيداً لوقوعها وتشويقاً للسامعين إلى استماعها، لا سيما وقد قُصَّ منها طائفةٌ متعلقةٌ بما جرى بـينه عليه السلام وبـين قومِه من المُحاجَّة وبقِيَتْ طائفةٌ مستقلّةٌ متعلقةٌ بعذابهم.

{ وَأُوحِىَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ } أي المُصِرِّين على الكفر وهو إقناطٌ له عليه السلام من إيمانهم وإعلامٌ لكونه كالمُحال الذي لا يصِحّ توقّعُه { إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ } إلا من قد وُجد منه ما كان يُتوقَّع من إيمانه، وهذا الاستثناءُ على طريقة قولِه تعالى: { { إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [النساء: 23] { فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } أي لا تحزَنْ حزْنَ بائسٍ مستكينٍ ولا تغتمَّ بما كانوا يتعاطَوْنه من التكذيب والاستهزاء والإيذاءِ في هذه المدة الطويلةِ فقد انتهى أفعالُهم وحان وقتُ الانتقامِ منهم { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ } ملتبساً { بِأَعْيُنِنَا } أي بحفظنا وكلاءتِنا كأن معه من الله عز وجل حُفّاظاً وحرّاساً يكلؤنه بأعينهم من التعدّي من الكفرة ومن الزيغ في الصنعة { وَوَحْيِنَا } إليك كيف تصنعُها وتعليمِنا وإلهامِنا. عن ابن عباس رضي الله عنهما لم يعلمْ كيف صنعةُ الفُلك، فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعَها مثلَ جُؤجُؤ الطائر، والأمرُ للوجوب إذ لا سبـيل إلى صيانة الروحِ من الغرق إلا به فيجب كوجوبها، واللامُ إما للعهد بأن يُحملَ على أن هذا مسبوقٌ بوحي الله تعالى إليه عليه السلام أنه سيهلكهم بالغرق وينجّيه ومَنْ معه بشيء سيصنعه بأمره تعالى ووحيِه، مِنْ شأنه كيتَ وكيت واسمُه كذا، وإما للجنس. قيل: صنعها عليه الصلاة والسلام في سنتين، وقيل: في أربعمائة سنة، وكانت من خشب الساج وجُعلت ثلاثةَ بطونٍ حُمل في البطن الأول الوحوشُ والسباعُ والهوامُّ، وفي البطن الأوسطِ الدوابُّ والأنعام، وفي البطن الأعلى جنسُ البشر هو ومَنْ معه مع ما يحتاجون إليه من الزاد، وحَمل معه جسدَ آدمَ عليه الصلاة والسلام، وقيل: جَعل في الأول الدوابَّ والوحوشَ وفي الثاني الإنسَ وفي الأعلى الطيرَ، قيل: كان طولُها ثلاثمائة ذراعٍ وعَرْضُها خمسين ذراعاً وسَمْكُها ثلاثين ذراعاً. وقال الحسنُ: كان طولُها ألفاً ومائتي ذراعٍ وعَرضُها ستَّمائةِ ذراعٍ. وقيل: إن الحَواريـين قالوا لعيسى عليه الصلاة والسلام: لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينةَ يحدثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفاً من ذلك الترابِ فقال: أتدرون مَنْ هذا؟ قالوا: الله ورسولُه أعلم، قال هذا كعبُ بنُ حام قال: فضرب بعصاه فقال: قم بإذن الله فإذا هو قائمٌ ينفض التراب عن رأسه وقد شاب، فقال له عيسى عليه الصلاة والسلام: أهكذا هلكْتَ؟ قال: لا، متُّ وأنا شابٌّ ولكني ظننتُ أنها الساعة فمِنْ ثَمَّةَ شِبْتُ، فقال: حدثنا عن سفينة نوحٍ، قال: كان طولُها ألفاً ومائتي ذراعٍ وعَرضُها ستمائة ذراع، وكانت ثلاثَ طبقاتٍ طبقةٌ للدواب والوحش وطبقةٌ للإنس وطبقةٌ للطير، ثم قال: عُدْ بإذن الله تعالى كما كنت فعاد تراباً.

{ وَلاَ تُخَـٰطِبْنِى فِى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي لا تراجِعْني فيهم ولا تدعُني باستدفاع العذابِ عنهم وفيه من المبالغة ما ليس فيما لو قيل: ولا تدعُني فيهم، وحيث كان فيه ما يلوح بالسبـيبة أُكّد التعليلُ فقيل: { إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } أي محكومٌ عليهم بالإغراق قد مضى به القضاءُ وجفّ القلمُ فلا سبـيل إلى كفه ولزِمتْهم الحُجةُ فلم يبقَ إلا أن يُجعلوا عِبرةً للمعتبرين ومثلاً للآخرين.