التفاسير

< >
عرض

قَالَ سَآوِيۤ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ ٱلْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ
٤٣
-هود

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ قَالَ سَآوِى إِلَىٰ جَبَلٍ } من الجبال { يَعْصِمُنِى } بارتفاعه { مِنَ ٱلْمَاء } زعماً منه أن ذلك كسائر المياهِ في أزمنة السيولِ المعتادةِ التي ربما يُتّقى منها بالصعود إلى الرُّبى، وأنّىٰ له ذلك وقد بلغ السيلُ الزُّبىٰ وجهلاً بأن ذلك إنما كان لإهلاك الكفرةِ وألاّ محيصَ من ذلك الفكر المُحالِ، وكان مقتضى الظاهرِ أن يجيب بما ينطبقُ عليه كلامُه ويتعرّضَ لنفي ما أثبته للجبل من كونه عاصماً له من الماء بأن يقولَ: لا يعصِمُك منه مفيداً لنفي وصفِ العصمةِ عنه فقط من غير تعرضٍ لنفيه عن غيره ولا لنفي الموصوف (بالعصمة) أصلاً لكنه عليه الصلاة والسلام حيث { قَالَ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } سلك طريقةَ نفي الجنسِ المنتظِمِ لنفي جميعِ أفرادِ العاصمِ ذاتاً وصفةً كما في قولهم: ليس فيه داعٍ ولا مجيبٌ أي أحدٌ من الناس للمبالغة في نفي كونِ الجبلِ عاصماً بالوجهين المذكورَين وزادَ اليومَ للتنبـيه على أنه ليس كسائر الأيامِ التي تقع فيها الوقائعُ وتُلِمُّ فيها المُلِماتُ المعتادةُ التي ربما يُتخلّص من ذلك بالالتجاء إلى بعض الأسبابِ العادية، وعبّر عن الماء في محلّ إضمارِه بأمرِ الله أي عذابِه الذي أشير إليه حيث قيل: حتى إذا جاء أمرُنا تفخيماً لشأنه وتهويلاً لأمره وتنبـيهاً لابنه على خطئه في تسميته ماءً ويوهم أنه كسائر المياهِ التي يُتفصَّى منها بالهرب إلى بعض المهاربِ المعهودةِ وتعليلاً للنفي المذكورِ فإن أمرَ الله لا يغالَب وعذابَه لا يُرَدّ وتمهيداً لحصر العِصمةِ في جناب الله عز جارُه بالاستثناء كأنه قيل: لا عاصمَ من أمر الله إلا هو إنما قيل: { إِلاَّ مَن رَّحِمَ } تفخيماً لشأنه الجليلِ بالإبهام ثم التفسيرِ وبالإجمال ثم التفصيل، وإشعاراً بعلّية رحمتِه في ذلك بموجب سبقِها على غضبه وكلُّ ذلك لكمال عنايتِه عليه الصلاة والسلام بتحقيق ما يتوخاه من نجاة ابنِه ببـيان شأنِ الداهيةِ وقطعِ أطماعِه الفارغةِ وصرفِه عن التعليل بما لا يغني عنه شيئاً وإرشادِه إلى العياذ بالمَعاذ الحقِّ عزَّ حِماهُ وقيل: لا مكانَ يعصِم من أمر الله إلا مكانُ منرحمه الله وهو الفُلك، وقيل: معنى لا عاصم لا ذا عصمةٍ إلا منرحمه الله تعالى { وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ } أي بـين نوحٍ وبـين ابنِه فانقطع ما بـينهما من المجاوبة لا بـين ابنِه وبـين الجبل لقوله تعالى: { فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } إذ هو إنما يتفرع على حيلولة الموجِ بـينه عليه الصلاة والسلام وبـين ابنه لا بـينه وبـين الجبلِ لأنه بمعزل من كونه عاصماً وإن لم يحُلْ بـينه وبـين الملتِجىءِ إليه موجٌ، وفيه دِلالةٌ على هلاك سائرِ الكفرةِ على أبلغ وجهٍ فكان ذلك أمراً مقرَّرَ الوقوعِ غيرَ مفتقِرٍ إلى البـيان، وفي إيراد كان دون صار مبالغةٌ في كونه منهم.