التفاسير

< >
عرض

وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ
٨٤
وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ
٨٥
-هود

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ } أي أولاد مدينَ بنِ إبراهيم عليه السلام أو جعل اسماً للقبـيلة بالغلبة أو أهلِ مدينَ وهو بلدٌ بناه مدينُ فسُمّي باسمه { أَخَـٰهُمْ } أي نسيبَهم { شُعَيْبًا } وهو ابن ميكيلَ بنِ يشجُرَ بنِ مدينَ وكان يقال له خطيبُ الأنبـياءِ لحسن مراجعتِه قومَه، والجملةُ معطوفةٌ على قوله تعالى: { إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَـٰلِحاً } [هود: 61] أي وأرسلنا إلى مدينَ أخاهم شعيباً { قَالَ } استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ عن صدر الكلام فكأنه قيل: فماذا قال لهم؟ فقيل: قال كما قال مَنْ قبله من الرسل عليهم السلام { يَا قَومِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } وحدَه ولا تشركوا به شيئاً { مَا لَكُم مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } تحقيقٌ للتوحيد وتعليلٌ للأمر به وبعد ما أمرهم بما هو مَلاكُ أمر الدينِ وأولُ ما يجب على المكلّفين نهاهم عن ترتيب مبادىءِ ما اعتادوه من البَخْس والتطفيف عادةً مستمرةً فقال: { وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } كي تتوسلوا بذلك إلى بخس حقوقِ الناس { إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } أي ملتبسين بثروة واسعةٍ تُغنيكم عن ذلك أو بنعمة من الله تعالى حقها أن تقابل بغير ما تأتونه من المسامحة والتفضل على الناس شكراً عليها أو أراكم بخير فلا تُزيلوه بما أنتم عليه من الشر على كل حال، علةٌ للنهي عُقّبت بعلة أخرى أعني قولَه عز وجل: { وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ } إن لم تنتهوا عن ذلك { عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } لا يشِذّ منه شاذٌّ منكم، وقيل: عذابَ يومٍ مُهلك من قوله تعالى: { { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } [الكهف: 42] وأصلُه من إحاطة العدو، والمرادُ عذابُ يومِ القيامة أو عذابُ الاستئصالِ، ووصفُ اليومِ بالإحاطة وهي حالُ العذاب على الإسناد المجازيِّ وفيه من المبالغة ما لا يخفى، فإن اليومَ زمانٌ يشتمل على ما وقع فيه من الحوادث فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذَّب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه، ويجوز أن يكون هذا تعليلاً للأمر والنهي جميعاً { وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ } أي بالعدل من غير زيادةٍ ولا نقصانٍ فإن الزيادةَ في الكيل والوزنِ وإن كان تفضّلاً مندوباً إليه لكنها في الآلة محظورةٌ كالنقص، فلعل الزائدَ للاستعمال عند الاكتيالِ والناقصَ للاستعمال وقت الكيل، وإنما أُمر بتسويتهما وتعديلِهما صريحاً بعد النهي عن نقصهما مبالغةً في الحمل على الإيفاء والمنعِ من البخس وتنبـيهاً على أنه لا يكفيهم مجردُ الكفِّ عن النقص والبخسِ بل يجب عليهم إصلاحُ ما أفسدوه وجعلوه معياراً لظلمهم وقانوناً لعدوانهم { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ } بسبب نقصِهما وعدم اعتدالِهما { أَشْيَاءهُمْ } التي يشترونها بهما، وقد صرّح بالنهي عن البخس بعد ما عُلم ذلك في ضمن النهي عن نقص المعيار والأمرِ بإيفائه اهتماماً بشأنه وترغيباً في إيفاء الحقوقِ بعد الترهيبِ والزجر عن نقصها، ويجوز أن يكون المرادُ بالأمر بإيفاء المكيالِ والميزان الأمرَ بإيفاء المَكيلاتِ والموزوناتِ، ويكونُ النهيُ عن البخس عاماً للنقص في المقدار وغيره تعميماً بعد التخصيص كما في قوله تعالى: { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ٱلأرْضِ مُفْسِدِينَ } فإن العَثَى يعم نقصَ الحقوقِ وغيرَه من أنواع الفسادِ، وقيل: البخسُ المكسُ كأخذ العشورِ في المعاملات. قال زهير بن أبـي سلمى:

أفي كل أسواقِ العراقِ إتاوةوفي كل ما باع امرؤٌ مَكْسُ دِرهمِ

والعثىٰ في الأرض السرقةُ وقطعُ الطريق والغارةُ، وفائدةُ الحال إخراجُ ما يُقصد به الإصلاحُ كما فعله الخضرُ عليه السلام من خرق السفينةِ وقتلِ الغلام، وقيل: معناه ولا تعثَوا في الأرض مفسدين أمْرَ آخرتِكم ومصالحَ دينكم.