التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ
٢٤
-يوسف

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } بمخالطته إذِ الهمُّ لا يتعلق بالأعيان أي قصدتْها وعزمت عليها عزماً جازماً لا يَلويها عنه صارفٌ بعد ما باشرت من مباديها وفعلت ما فعلت من المراودة وتغليقِ الأبواب ودعوتِه عليه السلام إلى نفسها بقولها: هيتَ لك، ولعلها تصدّت هنالك لأفعال أُخَرَ من بسط يدِها إليه وقصدِ المعانقة وغير ذلك مما يَضْطره عليه السلام إلى الهرب نحوَ الباب، والتأكيدُ لدفع ما عسى يُتوهم من احتمال إقلاعِها عما كانت عليه بما في مقالته عليه السلام من الزواجر { وَهَمَّ بِهَا } بمخالطتها أي مال إليها بمقتضى الطبـيعةِ البشرية وشهوةِ الشباب وكونه ميلاً جبلياً لا يكاد يدخل تحت التكليفِ لا أنه قصدها قصداً اختيارياً، ألا يُرى إلى ما سبق من استعصامه المُنْبىءِ عن كمال كراهيتِه له ونفرتِه عنه وحُكمه بعدم إفلاح الظالمين وهل هو إلا تسجيلٌ باستحالة صدور الهمِّ منه عليه السلام تسجيلاً محكماً وأنه عبر عنه بالهمّ لمجرد وقوعِه في صحبة همِّها في الذكرِ بطريق المشاكلة لا لشَبَهه به كما قيل، ولقد أشير إلى تباينهما حيث لم يُلَزّا في قَرن واحد من التعبـير بأن قيل: ولقد همّا بالمخالطة أو همّ كلٌّ منهما بالآخر، وصُدّر الأولُ بما يقرر وجودَه من التوكيد القسمي وعُقّب الثاني بما يعفو أثرَه من قوله عز وجل: { لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ } أي حجتَه الباهرةَ الدالة على كمال قبحِ الزنى وسوءِ سبـيله، والمرادُ برؤيته لها كمالُ إيقانِه بها ومشاهدتِه لها مشاهدةً واصلة إلى مرتبة عينِ اليقين الذي تتجلى هناك حقائقُ الأشياء بصورها الحقيقيةِ وتنخلع عن صورها المستعارة التي بها تظهر في هذه النشأة على ما نطق به قولُه عليه السلام: "حُفّت الجنةُ بالمكاره وحفت النار بالشهوات" وكأنه عليه السلام قد شاهد الزنىٰ بموجب ذلك البرهانِ النيّر على ما هو عليه في حد ذاتِه أقبحَ ما يكون وأوجبَ ما يجب أن يُحذر منه ولذلك فعل ما فعل من الاستعصام والحُكمِ بعدم إفلاحِ من يرتكبه، وجوابُ لولا محذوفٌ يدل عليه الكلام أي لولا مشاهدتُه برهانَ ربه في شأن الزنىٰ لجَرى على موجب ميلِه الجِبليِّ ولكنه حيث كان مشاهداً له من قبلُ استمر على ما هو عليه من قضية البرهان، وفائدةُ هذه الشرطيةِ بـيانُ أن امتناعَه عليه السلام لم يكن لعدم مساعدةٍ من جهة الطبـيعة بل لمحض العفةِ والنزاهة مع وفور الدواعي الداخلية وترتبِ المقدّمات الخارجيةِ الموجبةِ لظهور الأحكام الطبـيعية.

هذا وقد نص أئمةُ الصناعة على أن لولا في أمثال هذه المواقعِ جارٍ من حيث المعنى لا من حيث الصيغةُ مَجرى التقيـيدِ للحُكم المطلقِ كما في مثل قوله تعالى: { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا } [الفرقان: 42] فلا يتحقق هناك همٌّ أصلاً. وقد جوز أن يكون (وهم بها) جوابَ لولا جرياً على قاعدة الكوفيـين في جواز التقديم فالهمُّ حينئذ على معناه الحقيقي، فالمعنى لولا أنه قد شاهد برهانَ ربه لهمَّ بها كما همت به ولكن حيث انتفى عدم المشاهدة بدليل استعصامِه وما يتفرع عليه انتفى الهمُّ رأساً، هذا وقد فُسّر همُّه عليه السلام بأنه عليه السلام حلّ الهَمَيان وجلس مجلسَ الخِتان وبأنه حل تِكّة سراويلِه وقعد بـين شُعَبها، ورؤيتُه للبرهان بأنه سمع صوتاً: إياك وإياها فلم يكترثْ ثم وثم إلى أن تمثّل له يعقوبُ عليه السلام عاضًّا على أنملته وقيل: ضرب على صدره فخرجت شهوتُه من أنامله، وقيل: بدت كفٌّ فيما بـينهما ليس فيها عضُدٌ ولا مِعصمٌ مكتوبٌ فيها: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـٰفِظِينَ كِرَاماً كَـٰتِبِينَ } [الانفطار: 10] فلم ينصرف، ثم رأى فيها: { { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } [الإسراء: 32] فلم ينتهِ ثم رأى فيها: { { وَٱتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ } [البقرة: 281] فلم يَنْجَع، فقال الله عز وجل لجبريل: «أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة» فانحط جبريل عليه السلام وهو يقول: يا يوسفُ أتعملُ عملَ السفهاء وأنت مكتوبٌ في ديوان الأنبـياء؟ وقيل: رأى تمثال العزيزِ، وقيل: إنْ كلَّ ذلك إلا خرافاتٌ وأباطيلُ تمجُّها الآذانُ وتردُّها العقول والأذهانُ ويلٌ لمن لاكها ولفّقها أو سمعها وصدّقها.

{ كَذٰلِكَ } الكافُ منصوبُ المحلِّ وذلك إشارةٌ إلى الإراءة المدلولِ عليها بقوله تعالى: { لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ } أي مثلَ ذلك التبصيرِ والتعريفِ عرفناه برهاننا فيما قبل، أو إلى التثبـيت اللازمِ له أي مثلَ ذلك التثبـيتِ ثبتناه { لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوء } على الإطلاق فيدخل فيه خيانةُ السيِّد دخولاً أولياً { وَٱلْفَحْشَاء } والزنىٰ لأنه مفْرِطٌ في القبح وفيه آيةٌ بـينةٌ وحجةٌ قاطعةٌ على أنه عليه السلام لم يقع منه همٌّ بالمعصية ولا توجَّه إليها قط، وإلا لقيل: لنصرِفَه عن السوء والفحشاء، وإنما توجه إليه ذلك من خارجٍ فصرَفه الله تعالى عنه بما فيه من موجبات العفةِ والعصمةِ فتأمل. وقرىء ليَصرِف على إسناد الصرْف إلى ضمير الرب { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ } تعليلٌ لما سبق من مضمون الجملةِ بطريق التحقيقِ، والمخلصون هم الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته بأن عصمهم عما هو قادحٌ فيها، وقرىء على صيغة الفاعل وهم الذين أخلصوا دينهم لله سبحانه وعلى كلا المعنيـين فهو منتظَمٌ في سلكهم داخلٌ في زمرتهم من أول أمره بقضية الجملةِ الاسميةِ لا أن ذلك حدث له بعد أن لم يكن كذلك فانحسم مادةُ احتمالِ صدورِ الهمِّ بالسوء منه عليه السلام بالكلية.