التفاسير

< >
عرض

يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ
٢٩
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٣٠
-يوسف

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ يُوسُفَ } حُذف منه حرفُ النداء لقربه وكمالِ تفطُّنه للحديث وفيه تقريبٌ له وتلطيفٌ لمحله { أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا } أي عن هذا الأمرِ وعن التحديث به واكتُمْه فقد ظهر صدقُك ونزاهتُك { وَٱسْتَغْفِرِى } أنت يا هذه { لِذَنبِكِ } الذي صدر عنك وثبَتَ عليك { إِنَّكَ كُنتَ } بسبب ذلك { مِنَ ٱلْخَـٰطِئِينَ } من جملة القوم المتعمّدين للذنب أو من جنسهم، يقال: خطِىء إذا أذنب عمداً، وهو تعليلٌ للأمر بالاستغفار، والتذكيرُ لتغليب الذكورِ على الإناث وكان العزيزُ رجلاً حليماً فاكتفى بهذا القدرِ من مؤاخذتها، وقيل: كان قليلَ الغَيرة.

{ وَقَالَ نِسْوَةٌ } أي جماعةٌ من النساء وكنّ خمساً: امرأةُ الساقي وامرأةُ الخبّاز وامرأةُ صاحب الدوابِّ وامرأةُ صاحبِ السجنِ وامرأةُ الحاجب، والنسوةُ اسمٌ مفردٌ لجمع المرأةِ وتأنيثُه غير حقيقي كتأنيث اللُّمَة وهي اسمٌ لجماعة النساء والثُبَة وهي اسم لجماعة الرجال، ولذلك لم يلحَق فعلَه تاءُ التأنيث { فِى ٱلْمَدِينَةِ } ظرفٌ لقال أي أشعْن الأمرَ في مصر أو صفةٌ النسوة { امْرَأَةُ الْعَزِيزِ } أي الملك، يُرِدْن قطفير، وإضافتُهن لها إليه بذلك العنوانِ دون أن يصرِّحن باسمها أو اسمِه ليست لقصد المبالغةِ في إشاعة الخبر بحكم أن النفوسَ إلى سماع أخبارِ ذوي الأخطارِ أميلُ كما قيل، إذ ليس مرادُهن تفضيحَ العزيز بل هي لقصد الإشباعِ في لومها بقولهن: { تُرَاوِدُ فَتَـٰهَا } أي تطالبه بمواقعته لها وتتحمل في ذلك وتخادعه { عَن نَّفْسِهِ } وقيل: تطلب منه الفاحشة، وإيثارُهن لصيغة المضارع للدلالة على دوام المراودةِ والفتى من الناس الشابُّ وأصله فتيٌ لقولهم: فتيان والفتوة شاذة وجمعه فتية وفتيان ويستعار للمملوك وهو المراد هٰهنا وفي الحديث: "لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي" ، وتعبـيرُهن عن يوسف عليه السلام بذلك مضافاً إليها لا إلى العزيز الذي لا تستلزم الإضافةُ إليه الهوان بل ربما يشعر بنوع عزةٍ لإبانة ما بـينهما من التبايُن البـيِّن الناشىءِ عن المالكية والمملوكية، وكلُّ ذلك لتربـية ما مر من المبالغة والإشباعِ في اللوم فإن من لا زوج لها من النساء أو لها زوجٌ دنيءٌ قد تُعذر في مراودة الأخدان لا سيما إذا كان فيهم علوُّ الجناب، وأما التي لها زوجٌ وأيُّ زوج، عزيزُ مصرَ فمراودتُها لغيره ـ لا سيما لعبدها الذي لا كفاءةَ بـينها وبـينه أصلاً وتماديها في ذلك ـ غايةُ الغي ونهايةُ الضلال.

{ قَدْ شَغَفَهَا حُبّا } أي شق حبُّه شَغافَ قلبها وهو حجابُه أو جلدةٌ رقيقةٌ يقال لها لسانُ القلبِ حتى وصل إلى فؤادها، وقرىء شعَفها بالعين من شعف البعيرَ إذا هنَأَه فأحرقه بالقطِران. وعن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما الشغَفُ الحبُّ القاتل والشعف حبٌّ دون ذلك، وكان الشعبـي يقول: الشغفُ حبٌّ والشعفُ جنون والجملةُ خبرٌ ثانٍ أو حال من فاعل تُراود أو من مفعوله، وأياً ما كان فهو تكريرٌ لِلّوم وتأكيدٌ للعذْل ببـيان اختلالِ أحوالِها القلبـية كأحوالها القالَبـية، وجعلُها تعليلاً لدوام المراودةِ من حيث الإنية مصيرٌ إلى الاستدلال على الأجلي بالأخفى، ومن حيث اللُمية ميلٌ إلى تمهيد العذر من قِبلها ولسْن بذلك المقام، وانتصابُ حباً على التميـيز لنقله عن الفاعلية إذ الأصل قد شغفها حبُّه كما أشير إليه { إِنَّا لَنَرَاهَا } أي نعلمها علماً متاخماً للمشاهدة والعِيان فيما صنعت من المراودة والمحبة المفْرِطة مستقرةً { فِى ضَلَـٰلٍ } عن طريق الرشد والصوابِ أو عن سنن العقل { مُّبِينٌ } واضح لا يخفى كونُه ضلالاً على أحد أو مُظهرٍ لأمرها بـين الناس، فالجملةُ مقرِّرةٌ لمضمون الجملتين السابقتين المسوقتين للوم والتشنيع وتسجيلٌ عليها بأنها في أمرها على خطأ عظيم، وإنما لم يقُلن إنها لفي ضلال مبـين إشعاراً بأن ذلك الحكمَ غيرُ صادر عنهن مجازفةً بل عن علم ورأي مع التلويح بأنهن متنزّهاتٌ عن أمثال ما هي عليه.