التفاسير

< >
عرض

قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
٣٧
-يوسف

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } في مقامكما هذا حسب عادتِكما المطردةِ { إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوال أي لا يأتيكما طعامٌ في حال من الأحوال إلا حالَ ما نبأتكما به بأن بـينتُ لكما ماهيّتَه وكيفيته وسائرَ أحواله { قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا } وإطلاقُ التأويل عليه إما بطريق الاستعارةِ فإن ذلك بالنسبة إلى مطلق الطعامِ المُبهمِ بمنزلة التأويلِ بالنظر إلى ما رُئيَ في المنام وشبـيهٌ له، وإما بطريق المشاكلة حسبما وقع في عبارتهما من قولهما: { { نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } ولا يبعُد أن يراد بالتأويل الشيءُ الآئلُ لا المآلُ فإنه في الأصل جعلُ شيءٍ آئلاً إلى شيء آخرَ فكما يجوز أن يراد به الأولُ فالمعنى إلا نبأتُكما بما يؤول إليه من الكلام والخبرِ المطابق للواقع وكان عليه السلام يقول لهما: اليوم يأتيكما طعامٌ صفتُه كيتَ وكيت فيجدانه كذلك، ومرادُه عليه السلام بذلك بـيانُ كلِّ ما يُهمّهما من الأمور المترقَّبة قبل وقوعِها، وإنما تخصيصُ الطعام بالذكر لكونه عريقاً في ذلك بحسب الحال مع ما فيه من مراعاة حسنِ التخلص إليه مما استعبراه من الرؤيَـيَـيْن المتعلقتين بالشراب والطعام، وقد جعل الضميرُ لما قصا من الرؤيـيـين على معنى لا يأتيكما طعامٌ ترزقانِه حسب عادتِكما إلا أخبرتكما بتأويل ما قصصتما عليَّ قبل أن يأتيكما ذلك الطعامُ الموقت مراداً به الإخبارُ بالاستعجال في التنبئة. وأنت خبـيرٌ بأن النظم الكريمَ ظاهرٌ في تعدد إتيانِ الطعام والإخبار بالتأويل وتجدُّدِهما وأن المقام مقامُ إظهارِ فضلِه في فنون العلومِ بحيث يدخل في ذلك تأويلُ رؤياهما دخولاً أولياً، وإنما لم يكتفِ عليه السلام بمجرد تأويلِ رؤياهما مع أن فيه دِلالةً على فضلة لأنهما لما نعتاه عليه السلام بالانتظام في سِمْط المحسنين وأنهما قد علما ذلك حيث قالا: إنا نراك من المحسنين توسّم عليه السلام فيهما خيراً وتوجّهاً إلى قَبول الحق فأريد أن يخرُجَ آثرَ ذي أثيرٍ عما في عُهدته من دعوة الخلقِ إلى الحق فمهّد قبل الخوضِ في ذلك مقدمةً تزيدهما علماً بعظم شأنِه وثقةً بأمره ووقوفاً على طبقته في بدائع العلومِ توسلاً بذلك إلى تحقيق ما يتوخاه، وقد تخلّص إليها من كلامهما فكأنه قال: تأويلُ ما قصصتماه عليّ في طرف التمام حيث رأيتما مثاله في المنام وإني أبـيّن لكما كلَّ جليل ودقيق من الأمور المستقبلة وإن لم يكن هناك مقدمةُ إلمامٍ حتى إن الطعام الموظفَ الذي يأتيكما كلَّ يوم أبـيّنه قبل إتيانه، ثم أخبرهما بأن عمله ذلك ليس من قبـيل علوم الكهنةِ والعرّافين، بل هو فضلٌ إلهيٌّ يؤتيه من يشاء ممن يصطفيه للنبوة فقال:

{ ذٰلِكُمَا } أي ذلك التأويلُ والإخبارُ بالمغيّبات ـ ومعنى البُعد في ذلك للإشارة إلى علو درجتِه وبُعد منزلتِه ـ { مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى } بالوحي والإلهامِ أي بعضٌ منه أو من ذلك الجنسِ الذي لا يحوم حولَ إدراكِه العقولُ، ولقد دلهما بذلك على أن له علوماً جمةً، ما سمعاه قطعةٌ من جملتها وشُعبةٌ من دوحتها، ثم بـين أن نيل تلك الكرامةِ بسبب اتباعِه ملةَ آبائِه الأنبـياءِ العظامِ وامتناعِه عن الشرك فقال: { إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } وهو استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال نشأ من قوله: ذلكما مما علمني ربـي وتعليلاً له لا للتعليم الواقع صلةً للموصول لتأديته إلى معنى أنه مما علمني ربـي لهذا السبب دون غيرِه، ولا لمضمون الجملةِ الخبرية لأن ما ذُكر بصدد التعليلِ ليس بعلةٍ لكون التأويلِ المذكورِ بعضاً مما علمه ربُّه أو لكونه من جنسه بل لنفس تعليمِ ما علمه فكأنه قيل: لماذا علمك ربُّك تلك العلومَ البديعة؟ فقيل: لأني تركت ملة الكفرةِ أي دينَهم الذي اجتمعوا عليه من الشرك وعبادةِ الأوثان، والمراد بتركها الامتناعُ عنها رأساً كما يفصح عنه قوله: { مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَىْء } لا تركُها بعد ملابستها، وإنما عبّر عنه بذلك لكونه أدخلَ بحسب الظاهرِ في اقتدائهما به عليه السلام، والتعبـيرُ عن كفرهم بالله تعالى بسلب الإيمان به للتنصيص على أن عبادتَهم له تعالى مع عبادة الأوثانِ ليست بإيمان به تعالى كما هو زعمُهم الباطلُ على ما مر في قوله تعالى: { { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَـٰلِحٍ } [هود: 46] { وَهُم بِٱلأَخِرَةِ } وما فيها من الجزاء { هُمْ كَـٰفِرُونَ } على الخصوص دون غيرِهم لإفراطهم في الكفر.