التفاسير

< >
عرض

يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا ٱلآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ
٤١
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ
٤٢
-يوسف

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ يٰصَاحِبَىِ ٱلسّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا } وهو الشرابـيُّ وإنما لم يعيّنه ثقةً بدلالة التعبـير وتوسلاً بذلك إلى إبهام أمرِ صاحبِه حِذارَ مشافهتِه بما يسوءه { فَيَسْقِى رَبَّهُ } أي سيدَه { خَمْرًا } روي أنه عليه السلام قال له: ما رأيت من الكرمة وحسنها فالملكُ وحسنُ حالك عنده وأما القضبان الثلاثة فثلاثةُ أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه. وقرأ عكرمة فيُسقىٰ ربُّه على البناء للمفعول أي يُسقى ما يَروىٰ به { وَأَمَّا ٱلأَخَرُ } وهو الخباز { فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ } روي أنه عليه السلام قال له: ما رأيت من السلال ثلاثةُ أيام تمرّ ثم تخرج فتقتل { قُضِىَ } أي تم وأحكم { ٱلأَمْرُ ٱلَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } وهو ما رأياه من الرؤيـيـين قطعاً لا مآلُه الذي هو عبارة عن نجاة أحدِهما وهلاكِ الآخر كما يوهمه إسنادُ القضاء إليه إذ الاستفتاءُ إنما يكون في الحادثة لا في حكمِها يقال: استفتى الفقيهَ في الحادثة أي طلب منه بـيانَ حكمِها ولا يقال استفتاه في حكمها، وكذا الإفتاءُ فإنه يقال: أفتى فلانٌ في الواقعة الفلانية بكذا ولا يقال أفتى في حكمها أو جوابها بكذا، ومما هو علَمٌ في ذلك قولُه تعالى: { { يأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَفْتُونِى فِى رُؤْيَـٰىَ } [يوسف: 43] ومعنى استفتائهما فيه طلبُهما لتأويله بقولهما: نبئنا بتأويله وإنما عبر عن عن ذلك بالأمر وعن طلب تأويلِه بالاستفتاء تهويلاً لأمره وتفخيماً لشأنه إذ الاستفتاءُ إنما يكون في النوازل المشكِلة والحُكمِ المبهم الجواب، وإيثارُ صيغة الاستقبالِ مع سبق استفتائِهما في ذلك لما أنهما بصدده إلى أن يقضيَ عليه السلام من الجواب وطرَه، وإسنادُ القضاءِ إليه مع أنه من أحوال مآلِه لأنه في الحقيقة عينُ ذلك المآلِ وقد ظهر في عالم المثالِ بتلك الصورةِ، وأما توحيدُه مع تعدد رؤياهما فواردٌ على حسب ما وحّداه في قولهما: نبئنا بتأويله لا لأن الأمرَ ما اتُّهما به وسُجنا لأجله من سَمِّ الملكِ فإنهما لم يستفتيا فيه ولا فيما هو صورتُه بل فيما هو صورةٌ لمآله وعاقبتِه فتأمل. وإنما أخبرهما عليه السلام بذلك تحقيقاً لتعبـيره وتأكيداً له، وقيل: لما عبّر رؤياهما جحَدا وقالا: ما رأينا شيئاً فأخبرهما إن ذلك كائنٌ أصدقتما أو كذبتما، ولعل الجحودَ من الخبّاز إذ لا داعيَ إلى جحود الشرابـيِّ إلا أن يكون ذلك لمراعاة جانبه.

{ وَقَالَ } أي يوسف عليه السلام { لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ } أُوثر على صيغة المضارعِ مبالغةً في الدلالة على تحقق النجاةِ حسبما يفيده قوله تعالى: { قُضِىَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } وهو السرُّ في إيثار ما عليه النظمُ الكريم على أن يقال للذي ظنه ناجياً { مِنْهُمَا } من صاحبـيه، وإنما ذكر بوصف النجاةِ تمهيداً لمناط التوصيةِ بالذكر عند الملكِ وعنوانِ التقربِ المفهوم من التعبـير المذكورِ وإن كان أدخلَ في ذلك وأدعى إلى تحقيق ما وصّاه به لكنه ليس بوصف فارقٍ يدور عليه الامتيازُ بـينه وبـين صاحبه المذكورِ بوصف الهلاكِ، والظانُّ هو يوسفُ عليه السلام لا صاحبُه لأن التوصيةَ المذكورة لا تدور على ظن الناجي بل على ظن يوسفَ وهو بمعنى اليقينِ كما في قوله تعالى: { { ظَنَنتُ أَنّى مُلَـٰقٍ حِسَابِيَهْ } [الحاقة: 20] فالتعبـيرُ بالوحي كما ينبىء عنه قوله تعالى: { { قُضِىَ ٱلأَمْرُ } [إبراهيم: 22] الخ، وقيل: هو بمعناه والتعبـيرُ بالاجتهاد والحكمُ بقضاء الأمر أيضاً اجتهاديٌّ { ٱذْكُرْنِى } بما أنا عليه من الحال والصفة { عِندَ رَبّكَ } سيّدِك وصِفْني له بصفتي التي شاهدتَها { فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ } أي أنسى الشرابـيَّ بوسوسته وإلقائه في قلبه أشغالاً تعوقه عن الذكر وإلا فالإنساءُ في الحقيقة لله عز وجل والفاءُ للسببـية فإن توصيتَه عليه السلام المتضمنةَ للاستعانة بغيره سبحانه كانت باعثةً لما ذكر من الإنساء { ذِكْرَ رَبّهِ } أي ذكرَ الشرابـيِّ له عليه السلام عند الملِك، والإضافة لأدنى ملابسةٍ، أو ذكرَ إخبارِ ربِّه { فَلَبِثَ } أي يوسف عليه السلام بسبب ذلك الإنساءِ أو القول { فِى ٱلسّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } البِضْعُ ما بـين الثلاث إلى التسع من البَضْع وهو القطعُ، وأكثرُ الأقاويل أنه لبث فيه سبعَ سنين، وروي عن النبـي عليه السلام: "رحم الله أخي يوسفَ لو لم يقُل اذكُرْني عند ربِّك لما لبث في السجن سبعاً بعد الخمس" والاستعانةُ بالعباد وإن كانت مرخصةً لكن اللائقَ بمناصب الأنبـياءِ عليهم السلام الأخذُ بالعزائم.