التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ
٨٨
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ
٨٩
-يوسف

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ } أي على يوسف بعد ما رجعوا إلى مصر بموجب أمرِ أبـيهم وإنما لم يُذكر ذلك إيذاناً بمسارعتهم إلى ما أمروا به وإشعاراً بأن ذلك أمرٌ محققٌ لا يفتقر إلى الذكر والبـيان { قَالُواْ ياأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ } أي الملكُ القادرُ المتمنع { مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ } الهُزالُ من شدة الجوع { وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ } مدفوعةٍ يدفعها كلُّ تاجر رغبةً عنها واحتقاراً لها من أزجَيتُه إذا دفعتُه وطردتُه والريحُ تزجي السحابَ. قيل: كانت بضاعتُهم من متاع الأعراب صوفاً وسمناً، وقيل: الصنوبرَ وحبةَ الخضراء، وقيل: سُويقُ المُقْل والأقِطُ، وقيل: دراهمَ زيوفاً لا تؤخذ إلا بوضيعة وإنما قدّموا ذلك ليكون ذريعةً إلى إسعاف مرامهم ببعث الشفقةِ وهو العطفُ والرأفة وتحريكُ سلسلة المرحمة.

ثم قالوا { فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ } أي أتممْه لنا { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } بردّ أخينا إلينا، قاله الضحاك وابن جريج وهو الأنسبُ بحالهم نظراً إلى أمر أبـيهم، أو بالإيفاء أو بالمسامحة وقَبول المُزجاة أو بالزيادة على ما يساويها تفضلاً وإنما سمَّوه تصدقاً تواضعاً أو أرادوا التصدقَ فوق ما يعطيهم بالثمن بناء على اختصاص حُرمة الصدقة بنبـينا عليه الصلاة والسلام وإنما لم يبدأوا بما أُمروا به استجلاباً للرأفة وللشفقة ليبعثوا بما قدّموا من رقة الحالِ رقةَ القلب والحنُوَّ على أن ما ساقوه كلامٌ ذو وجهين، فإن قولهم: وتصدّق علينا { إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِى ٱلْمُتَصَدّقِينَ } يحتمل الحملَ على المحملين فلعله عليه السلام حمله على المحمل الأول ولذلك { قَالَ } مجيباً عما عرّضوا به وضمّنوه كلامَهم من طلب ردِّ أخيهم { هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ } وكان الظاهرُ أن يتعرضَ لما فعلوا بأخيه فقط، وإنما تعرض لما فعلوا بـيوسف لاشتراكهما في وقوع الفعلِ عليهما، فإن المراد بذلك إفرادُهم له عن يوسف وإذلالُه بذلك حتى كان لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز وذِلةٍ أي هل تُبتم عن ذلك بعد علمِكم بقبحه؟ فهو سؤالٌ عن الملزوم والمرادُ لازمُه { إِذْ أَنتُمْ جَـٰهِلُونَ } بقبحه فلذلك أقدمتم على ذلك أو جاهلون عاقبتَه وإنما قاله نصحاً لهم وتحريضاً على التوبة وشفقةً عليهم لمّا رأى عجزَهم وتمسكنَهم لا معاتبةً وتثريباً، ويجوز أن يكون هذا الكلامُ منه عليه السلام منقطعاً عن كلامهم وتنبـيهاً لهم على ما هو حقُّهم ووظيفتهم من الإعراض عن جميع المطالب والتمحضِ في طلب بنيامين بل يجوز أن يقف عليه السلام بطريق الوحي أو الإلهام على وصية أبـيه وإرسالِه إياهم للتحسس منه ومن أخيه فلما رآهم قد اشتغلوا عن ذلك قال ما قال، وقيل: أعطَوه كتابَ يعقوبَ عليه السلام وقد كتب فيه: «كتابٌ من يعقوبَ إسرائيلِ الله بن إسحاقَ ذبـيحِ الله بن إبراهيمَ خليل الله إلى عزيز مصرَ أما بعد فإنا أهلُ بـيتٍ موكلٍ بنا البلاءُ أما جدّي فشُدت يداه ورجلاه فرُمي به في النار فنجّاه الله تعالى وجُعلت النار له برداً وسلاماً وأما أبـي فوُضع السكينُ على قفاه ليُقتل ففداه الله تعالى وأما أنا فكان لي ابنٌ وكان أحبَّ أولادي إلىّ فذهب به إخوتُه إلى البرية ثم أتَوْني بقميصه ملطخاً بالدم فقالوا: قد أكله الذئبُ فذهبت عيناي من بكائي عليه ثم كان لي ابنٌ وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا: إنه سرَق وأنك حبستَه وإنا أهلُ بـيت لا نسرِق ولا نلد سارقاً فإن رددتَه عليَّ وإلا دعوتُ عليك دعوةً تُدرك السابعَ من ولدَك والسلام». فلما قرأه لم يتمالكْ وعيل صبرُه فقال لهم ما قال، وقيل: لما قرأه بكى وكتب الجواب: اصبِر كما صبروا تظفرْ كما ظفِروا.