التفاسير

< >
عرض

لَهُ دَعْوَةُ ٱلْحَقِّ وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ
١٤
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ
١٥
قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُلِ ٱللَّهُ قُلْ أَفَٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي ٱلظُّلُمَاتُ وَٱلنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ ٱللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ
١٦
أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ
١٧
لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ سُوۤءُ ٱلْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ
١٨
-الرعد

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ لَهُ دَعْوَةُ ٱلْحَقّ } أي الدعوةُ الثابتة الواقعة في محلها المجابةُ عند وقوعِها، والإضافةُ للإيذان بملابستها للحق واختصاصِها به وكونِه بمعزل من شائبة البطلانِ والضَّياع والضلال كما يقال كلمةُ الحق، وقيل: له دعوةُ الله سبحانه أي الدعوةُ اللائقة بحضرته كما في قوله عليه الصلاة والسلام: "فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله" والتعرضُ لوصف الحقّية لتربـية معنى الاستجابةِ، والأولى هو الأولُ لقوله تعالى: { وَمَا دُعَاء ٱلْكَـٰفِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَـٰلٍ } وتعلقُ الجملتين بما قبلهما من حيث أن إهلاكَ أربد وعامرٍ مِحالٌ من الله تعالى وإجابةٌ لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما إن كانت الآية نزلت في شأنهما أو من حيث إنه وعيدٌ للكفرة على مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلول مِحالِه بهم وتحذيرٌ لهم بإجابة دعوتِه عليهم { وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ } أي الأصنامَ الذين يدعوهم المشركون فحُذف العائد { مِن دُونِهِ } من دون الله عز وجل { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء } من طلباتهم { إِلاَّ كَبَـٰسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى ٱلْمَاء } أي إلا استجابةً كائنة كاستجابه الماء لمن بسَط كفيه إليه من بعيد، فالاستجابةُ مصدرٌ من المبني للفاعل على ما يقتضيه الفعلُ الظاهر أعني لا يستجيبون، ويجوز أن يكون من المبنيِّ للمفعول ويُضاف إلى الباسط بناءً على استلزام المصدرِ من المنبـي للفاعل للمصدر من المبني للمفعول وجوداً وعدماً، فكأنه قيل: لا يستجيبون لهم بشيء فلا يستجاب لهم إلا استجابةً كائنة كاستجابة من بسط كفيه إلى الماء كما في قوله

وعضةُ دهرٍ يا ابنَ مروانَ لم تدَعمن المال إلا مُسْحتٌ أو مجلِّفُ

أي لم تدع فلم يبق إلا مسحتٌ أو مجلِّف { لِيَبْلُغَ } أي الماءُ بنفسه من غير أن يؤخذ بشيء من إناء ونحوه { فَاهُ وَمَا هُوَ } أي الماء { بِبَالِغِهِ } ببالغ فيه أبداً لكونه جماداً لا يشعُر بعطشه ولا ببسط يدِه إليه فضلاً عن الاستطاعة لما أراده من البلوغ إلى فيه، شبّه حالُ المشركين في عدم حصولهم في دعاء آلهتِهم على شيء أصلاً وركاكةِ رأيهم في ذلك بحال عطشانَ هائمٍ لا يدري ما يفعل قد بسط كفيه من بعيد إلى الماء يبغي وصولَه إلى فيه من غير ملاحظةِ التشبـيه في جميع مفرداتِ الأطراف، فإن الماءَ في نفسه شيءٌ نافع بخلاف آلهتِهم، والمرادُ نفيُ الاستجابةِ رأساً إلا أنه قد أُخرج الكلامُ مُخرج التهكم بهم فقيل: لا يستجيبون لهم شيئاً من الاستجابة إلا استجابةً كائنة في هذه الصورةِ التي ليست فيها شائبةُ الاستجابة قطعاً فهو في الحقيقة من باب التعليقِ بالمحال، وقرىء تدعون بالتاء وكباسطٍ بالتنوين { وَمَا دُعَاء ٱلْكَـٰفِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَـٰلٍ } أي ذهاب وضَياعٍ وخَسار.

{ وَللَّهِ } وحده { يَسْجُدُ } يخضع وينقاد لا لشيء غيرِه استقلالاً ولا اشتراكاً فالقصرُ ينتظم القلبَ والإفراد { مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } من الملائكة والثقلين { طَوْعًا وَكَرْهًا } أي طائعين وكارهين وانقيادَ طوعٍ وكُرهٍ، أو حالَ طوعٍ وكره، فإن خضوعَ الكلّ لعظمة الله عز وجل وانقيادَهم لإحداث ما أراده فيهم من أحكام التكوين والإعدام شاءوا أو أبَوا، وعدمُ مداخلةِ حكمِ غيره بل غيرِ حكمِه تعالى في تلك الشؤون مما لا يخفى على أحد { وَظِلَـٰلُهُم } أي وتنقاد له تعالى ظلالُ مَنْ له ظلٌ منهم أعني الإنسَ حيث تتصرف على مشيئته وتتأتّى لإرادته في الامتداد والتقلّص والفيء والزوال { بِٱلْغُدُوّ وَٱلأَصَالِ } ظرفٌ للسجود المقدّر أو حالٌ من الظلال، وتخصيصُ الوقتين بالذكر مع أن انقيادها متحققٌ في جميع أوقات وجودِها لظهور ذلك فيهما، والغدو جمع غَداة كفتيّ في جمع فتاة والآصالُ جمع أصيل، وقيل: جمع أُصُل وهو جمعُ أصيل، وهو ما بـين العصر والمغربِ، وقيل: الغدوّ مصدرٌ ويؤيده أنه قرىء والإيصالِ أي الدخول في الأصيل. هذا وقد قيل إن المرادَ حقيقةُ السجود فإن الكفرة ـ حال الاضطرارِ وهو المعنيُّ بقوله تعالى: { { وَكَرْهًا } ـ يخُصّون السجودَ به سبحانه، قال تعالى: { { فَإِذَا رَكِبُواْ فِى ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ } [العنكبوت: 65] ولا يبعُد أن يخلُق الله تعالى في الظلال أفهاماً وعقولاً بها تسجُد لله سبحانه كما خلقها للجبال حتى اشتغلت بالتسبـيح وظهر فيها آثارُ التجلّي كما قاله ابن الأنباري، ويجوز أن يراد بسجودها ما يشاهَد فيها من هيئة السجود تبعاً لأصحابها، وأنت خبـير بأن اختصاصَ سجودِ الكافر حالة الضرورةِ والشدة بالله سبحانه لا يُجدي فإن سجودَهم لأصنامهم حالةَ الرخاء مُخِلُّ بالقصر المستفادِ من تقديم الجار والمجرور فالوجهُ حملُ السجودِ على الانقياد، ولأن تحقيقَ انقيادِ الكل في الإبداع والإعدامِ له تعالى أدخلُ في التوبـيخ على اتخاذ أولياءَ من دونه من تحقيق سجودِهم له تعالى، وتخصيصُ انقيادِ العقلاءِ بالذكر مع كون غيرِهم أيضاً كذلك لأنهم العُمدة وانقيادهم دليل انقيادُ غيرهم على أنه بـين ذلك بقوله عز وجل:

{ قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } فإنه لتحقيق أن خالقَهما ومتولّيَ أمرهما مع ما فيهما على الإطلاق هو الله سبحانه وقوله تعالى: { قُلِ ٱللَّهُ } أمرٌ بالجواب من قِبله عليه الصلاة والسلام إشعاراً بأنه متعيِّن للجوابـية فهو والخصمُ في تقريره سواءٌ، أو أمرٌ بحكاية اعترافِهم إيذاناً بأنه أمرٌ لا بد لهم من ذلك كأنه قيل: احْكِ اعترافَهم فبكِّتْهم بما يلزمهم من الحجة وألقِمْهم الحجَر، أو أمرٌ بتلقينهم ذلك إن تلعثموا في الجواب حذراً من الإلزام فإنهم لا يتمالكون إذ ذاك ولا يقدرون على إنكاره { قُلْ } إلزاماً لهم وتبكيتاً { أَفَٱتَّخَذْتُمْ } لأنفسكم والهمزةُ لإنكار الواقعِ كما في قولك: أضربت أباك؟ لا لإنكار الوقوع كما في قولك: أأضرب أبـي؟ والفاء للعطف على مقدر بعد الهمزةِ أي أعلمتم أن ربهما هو الله الذي ينقاد لأمره مَنْ فيهما كافةً فاتخذتم عَقيبَه { مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } عاجزين { لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا } يستجلبونه { وَلاَ ضَرّا } يدفعونه عن أنفسهم فضلاً عن القدرة على جلب النفعِ لغيره ودفع الضررِ عنه لا على أن يكون الإنكارُ متوجِّهاً إلى المعطوفَين معاً كما في قوله تعالى: { { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [البقرة: 44] إذا قُدّر المعطوف عليه ألا تسمعون، بل إلى ترتب الثاني على الأول مع وجوب أن يترتبَ عليه نقيضُه كما إذا قدّر أتسمعون، والمعنى أبعد أن علِمتم أن ربَّهما هو الله جل جلاله اتخذتم من دونه أولياءَ عجَزَةً؟ والحال أن قضيةَ العلم بذلك إنما هو الاقتصارُ على تولّيه فعكستم الأمر، كما في قوله تعالى: { { كَانَ مِنَ ٱلْجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى } [الكهف: 50] ووصفُ الأولياء هٰهنا بعدم المالكية للنفع والضر في ترشيح الإنكارِ وتأكيدهِ كتقيـيد الاتخاذِ هناك بالجملة الحالية أعني قولَه تعالى: { وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } فإن كلاًّ منهما مما ينفي الاتخاذَ المذكور ويؤكد إنكاره.

{ قُلْ } تصوير لآرائهم الركيكة بصورة المحسوس { هَلْ يَسْتَوِى ٱلأَعْمَىٰ } الذي هو المشركُ الجاهل بالعبادة ومستحقِها{ وَٱلْبَصِيرُ } الذي هو الموحِّد العالم بذلك أو الأولُ عبارةٌ عن المعبود الغافل والثاني إشارةٌ إلى المعبود العالمِ بكل شيء { أَمْ هَلْ تَسْتَوِى ٱلظُّلُمَـٰتُ } التي هي عبارةٌ عن الكفر والضلال { وَٱلنّورِ } الذي هو عبارةٌ عن التوحيد والإيمان، وقرىء بالياء.

ولمّا دل النظمُ الكريم على أن الكفرةَ فيما فعلوا من اتخاذ الأصنامِ أولياءَ من دون الله سبحانه في الضلال المحضِ والخطأ البحت بحيث لا يخفى بطلانُه على أحد وأنهم في ذلك كالأعمى الذي لا يهتدي إلى شيء أصلاً وليس لهم في ذلك شبهةٌ تصلح أن تكون منشأً لغلطهم وخطئهم فضلاً عن الحجة أُكّد ذلك فقيل: { أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ } أي بل أجعلوا له { شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } سبحانه، والهمزةُ لإنكار الوقوعِ مع وقوعه وقوله: { خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } هو الذي يتوجه إليه الإنكار وأما نفسُ الجعل فهو واقعٌ لا يتعلق به الإنكارُ بهذا المعنى والمعنى أنهم لم يجعلوا لله تعالى شركاءَ خلقوا كخلقه { فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ } بسبب ذلك وقالوا: هؤلاء خلقوا كخلقه تعالى فاستحقوا بذلك العبادةَ كما استحقها ليكونَ ذلك منشأً لخطئهم بل إنما جعلوا له شركاءَ ما هو بمعزل من ذلك بالمرة، وفيه ما لا يخفى من التعريض بركاكة رأيِهم والتهكم بهم { قُلْ } تحقيقاً للحق وإرشاداً لهم إليه { ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلّ شَىْء } كافةً لا خالقَ سواه فيشاركَه في استحقاق العبادة { وَهُوَ ٱلْوَاحِدُ } المتوحّدُ بالألوهية المتفرّدُ بالربوبـية { ٱلْقَهَّارُ } لكل ما سواه فكيف يُتوهّم أن يكون له شريكٌ؟ وبعد ما مُثّل المشركُ والشركُ بالأعمى والظلماتِ، والموحدُ والتوحيدُ بالبصير والنور مُثّل الحقُّ الذي هو القرآنُ العظيم ـ في فيضانه من جناب القدسِ على قلوب خاليةٍ عنه متفاوتةِ الاستعداد وفي جريانه عليها ملاحظةً وحفظاً وعلى الألسنة مذاكرةً وتلاوةً وفي ثباته فيهما مع كونه مُمِدّاً لحياتها الروحانية وما يتلوها من الملكات السنية والأعمالِ المرضيّة ـ بالماء النازلِ من السماء السائلِ في أودية يابسةٍ لم تجرِ عادتُها بذلك سيلاناً مقدراً بمقدار اقتضتْه الحكمةُ في إحياء الأرضِ وما عليها الباقي فيها حسبما يدور عليه منافعُ الناس، وفي كونه حليةً تتحلّى به النفوسُ وتصل إلى البهجة الأبدية ومتاعاً يُتمتّع به في المعاش والمعاد بالذهب والفضة وسائر الفلزّات التي يُتخذ منها أنواعُ الآلات والأدواتِ وتبقى منتَفعاً بها مدةً طويلةً، ومُثّل الباطلُ الذي ابتُليَ به الكفرةُ لقصور نظرِهم بما يظهر فيهما من غير مداخلةٍ له فيهما وإخلالٍ بصفائهما من الزبد الرابـي فوقهما المضمحلّ سريعاً فقيل:

{ أَنزَلَ مِنَ ٱلْسَّمَاء } أي من جهتها { مَاء } أي كثيراً أو نوعاً منه وهو ماءُ المطر { فَسَالَتْ } بذلك { أَوْدِيَةٌ } واقعةٌ مواقعه لا جميعُ الأودية إذ الأمطارُ لا تستوعبُ الأقطارَ وهو جمعُ وادٍ وهو مفرَجٌ بـين جبال أو تلالٍ أو آكام على الشذوذ كنادٍ وأندية وناج وأنجية، قالوا: وجهُه أن فاعلا يجيء بمعنى فعيل، كناصر ونصير، وشاهد وشهيد، وعالم وعليم، وحيث جُمع فعيل على أفعلة كجريب وأجرِبة جُمع فاعلٌ أيضاً على أفعلة، فإن أريد بها ما يسيل فيها مجازاً فإسنادُ السيلانِ إليها حقيقيٌّ وإن أريد معناها الحقيقيُّ فالإسنادُ مجازيٌّ كما في جرى النهرُ، وإيثارُ التمثيل بها على الأنهار المستمرةِ الجريانِ لوضوح المماثلةِ بـين شأنها وشأنِ ما مُثّل بها كما أشير إليه { بِقَدَرِهَا } أي سالت ملتبسةً بمقدارها الذي عينه الله تعالى واقتضتْه حكمتُه في نفع الناس أو بمقدارها المتفاوتِ قلةً وكثرةً بحسب تفاوتِ محالّها صِغَراً وكِبَراً لا بكونها مالئةً لها منطبقةً عليها بل بمجرد قلّتها بِصغرها المستلزِمِ لقلة مواردِ الماء وكثرتها بكِبَرها المستدعي لكثرة الموارد، فإن موردَ السيل الجاري في الوادي الصغير أقلُّ من مورد السيل الجاري في الوادي الكبـير، هذا إن أريد بالأودية ما يسيل فيها، أما إن أريد بها معناها الحقيقيُّ فالمعنى سالت مياهُها بقدر تلك الأوديةِ على نحو ما عرفته آنفاً، أو يراد بضميرها مياهُها بطريق الاستخدام ويراد بقدَرها ما ذكر أولاً من المعنيـين { فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ } الجاري في تلك الأودية أي حملَ معه { زَبَدًا } أي غُثاء ورَغوةً، وإنما وُصف ذلك بقوله تعالى { رَّابِيًا } أي عالياً منتفخاً فوقه بـياناً لما أريد بالاحتمال المحتمَلِ لكون الحميلِ غيرَ طافٍ كالأشجار الثقيلة وإنما لم يُدفع ذلك الاحتمالُ بأن يقال: فاحتمل السيلُ فوقه للإيذان بأن تلك الفوقيةَ مقتضى شأنِ الزبدِ لا من جهة المحتمَل تحقيقاً للمماثلة بـينه وبـين ما مُثّل به من الباطل الذي شأنُه الظهورُ في بادي الرأي من غير مداخلةٍ في الحق { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى ٱلنَّارِ } أي يفعلون الإيقادَ عليه كائناً في النار والضميرُ للناس أُضمر مع عدم سبق الذكرِ لظهوره وقرىء بالخطاب { ٱبْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَـٰعٍ } أي لطلب اتخاذِ حليةٍ وهي ما يُتزيّن ويُتجمّل به كالحِليِّ المتخَذَة من الذهب والفضة أو اتخاذِ متاعٍ وهو ما يتمتع به من الأواني والآلات المتخَذةِ من الرصاص والحديد وغيرِ ذلك من الفِلزّات { زَبَدٌ } خبث { مّثْلِهِ } مثلُ ما ذكر من زبد الماء في كونه رابـياً فوقه، فقوله: زبدٌ مبتدأٌ خبرُه الظرفُ المقدم، ومن ابتدائيه دالةٌ على مجرد كونِه مبتدأ وناشئاً منه لا تبعيضيةٌ معرِبة عن كونه بعضاً منه كما قيل، لإخلال ذلك بالتمثيل، وفي التعبـير عن ذلك بالموصول والتعرضِ لما في حيّز الصلةِ من إيقاد النار عليه جرْيٌ على سنن الكِبرياء بإظهار التهاونِ به كما في قوله تعالى: { { فَأَوْقِدْ لِى يٰهَـٰمَـٰنُ عَلَى ٱلطّينِ } [القصص: 38] وإشارةٌ إلى كيفية حصولِ الزبدِ منه بذوبانه، وفي زيادة (في النار) إشعارٌ بالمبالغة في الاعتمال للإذابة وحصولِ الزبد كما أشير إليه، وعدمُ التعرض لإخراجه من الأرض لعدم دخلِ ذلك العنوانِ في التمثيل كما أن لعنوان إنزالِ الماءِ من السماء دخلاً فيه حسبما فصّل فيما سلف بل له إخلالٌ بذلك.

{ كَذٰلِكَ } أي مثلَ ذلك الضربِ البديعِ المشتملِ على نُكت رائقةٍ { يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَـٰطِلَ } أي مثَلَ الحق ومثل الباطل، والحذفُ للإنباء عن كمال التماثل بـين الممثَّل والممثلِ به كأنه المثَلَ المضروبَ عينُ الحقِّ والباطلِ، وبعد تحقيق التمثيلِ مع الإيماء في تضاعيف ذلك إلى وجوه المماثلة على أبدع وجوهٍ وآنقِها ـ حسبما أشير إليه في مواقعها ـ بـيِّن عاقبةُ كل من الممثّلين على وجه التمثيل مع التصريح ببعض ما به المماثلة من الذهاب والبقاءِ تتمةً للغرض من التمثيل من الحث على اتباع الحقِّ الثابتِ والردْعِ عن الباطل الزائد فقيل: { فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ } من كلَ منهما { فَيَذْهَبُ جُفَاء } أي مرمياً به، وقرىء جُفالاً والمعنى واحد { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ } منهما كالماء الصافي والفِلزِّ الخالص { فَيَمْكُثُ فِى ٱلأَرْضِ } أما الماء فيثبت بعضُه في مناقعه ويسلك بعضه في عروق الأرضِ إلى العيون والقنا والآبار وأما الفلزُّ فيصاغ من بعضه أنواعُ الحِليِّ ويتخذ من بعضه أصنافُ الآلات والأدوات فيُنتفع بكل من ذلك أنواعَ الانتفاعات مدةً طويلة، فالمرادُ بالمكث في الأرض ما هو أعمُّ من المكث في نفسها ومن البقاء في أيدي المتقلّبـين فيها وتغيـيرُ ترتيبِ اللفِّ الواقعِ في الفذْلكة الموافقِ للترتيب الواقع في التمثيلِ لمراعاة الملاءمةِ بـين حالتي الذهاب والبقاءِ وبـين ذكرَيهما فإن المعتبَر إنما هو بقاءُ الباقي بعد ذهاب الذاهبِ لا قبله.

{ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ } أي مثلَ ذلك الضرب العجيبِ يضرب { ٱلأَمْثَالَ } في كل باب إظهاراً لكمال اللطفِ والعنايةِ في الإرشاد والهداية، وفيه تفخيمٌ لشأن هذا التمثيلِ وتأكيدٌ لقوله: { { كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَـٰطِلَ } إما باعتبار ابتناءِ هذا التمثيلِ الأول أو بجعل ذلك إشارةً إليهما جميعاً، وبعد ما بُـيِّن شأنُ كل من الحق والباطلِ حالاً ومآلاً أُكملَ بـيانٍ شُرع في بـيان حالِ أهلِ كل منهما مآلاً تكميلاً للدعوة ترغيباً وترهيباً فقيل:

{ لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمُ } إذ دعاهم إلى الحق بفنون الدعوةِ التي من جملتها ضربُ الأمثال فإنه ألطفُ ذريعةٍ إلى تفهيم القلوب الغبـيةِ وأقوى وسيلةٍ إلى تسخير النفوسِ الأبـية، كيف لا وهو تصويرٌ للمعقول بصورة المحسوسِ وإبرازٌ لأوابد المعاني في هيئة المأنوس فأيُّ دعوةٍ أولى منه بالاستجابة والقَبول { ٱلْحُسْنَىٰ } أي المثوبةُ الحسنى وهي الجنة { وَٱلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ } وعاندوا الحقَّ الجليَّ { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى ٱلأَرْضِ } من أصناف الأموال { جَمِيعاً } بحيث لم يشِذَّ منه شاذٌّ في أقطارها أو مجموعاً غيرَ متفرقٍ بحسب الأزمان { وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ } أي بما في الأرض ومثلَه معه جميعاً ليتخلّصوا عما بهم، وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيط به البـيانُ، فالموصولُ مبتدأٌ والشرطيةُ كما هي خبرُه لكن لا على أنها وضُعت موضِعَ السوآى فوقعت في مقابلة الحُسنى الواقعةِ في القرينة الأولى لمراعاة حسنِ المقابلة فصار كأنه قيل: وللذين لم يستجيبوا له السوآى كما يوهم، فإن الشرطيةَ وإن دلت على كمال سوءِ حالِهم لكنها بمعزل من القيام مقامَ لفظ السوآى مصحوباً باللام الداخلةِ على الموصول أو ضميرِه، وعليه يدور حصولُ المرام، وإنما الواقعُ في تلك المقابلة سوءُ الحساب في قوله تعالى: { أُوْلَـئِكَ لَهُمْ سُوء ٱلْحِسَـٰبِ } وحيث كان اسمُ الإشارة الواقعُ مبتدأً في هذه الجملة عبارةً عن الموصول الواقعِ مبتدأً في الجملة السابقة كان خبرُها أعني الجملةَ الظرفية خبراً عن الموصول في الحقيقة ومبـيِّناً لإبهام مضمونِ الشرطيةِ الواقعةِ خبراً عنه أولاً، ولذلك تُرك العطفُ فصار كأنه قيل: والذين لم يستجيبوا له لهم سوءُ الحساب، وذلك في قوة أن يقال: وللذين لم يستجيبوا له لهم سوءُ الحساب مع زيادة تأكيدٍ فتم حسنُ المقابلة على أبلغ وجهٍ وآكدِه، ثم بـيِّن مؤدّىٰ ذلك فقيل: { وَمَأْوَاهُمُ } أي مرجعهم { جَهَنَّمَ } وفيه نوعُ تأكيد لتفسير الحسنى بالجنة { وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } أي المستقرُّ، والمخصوصُ بالذم محذوفٌ، وقيل: اللام في قوله تعالى: { لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمُ } متعلقةٌ بقوله: { يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ } أي الأمثالَ السالفةَ وقوله: { ٱلْحُسْنَىٰ } صفةٌ للمصدر أي استجابوا الاستجابةَ الحسنى وقوله: { وَٱلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ } معطوفٌ على الموصول الأولِ، وقوله: لو أن لهم الخ، كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبـيان ما أُعدّ لغير المستجيبـين من العذاب، والمعنى كذلك يضرب الله الأمثالَ للمؤمنين المستجيبـين والكافرين المعاندين، أي هما مثلاً الفريقين. وأنت خبـير بأن عنوانَ الاستجابة وعدمَها لا مناسبة بـينه وبـين ما يدور عليه أمرُ التمثيل وأن الاستعمالَ المستفيضَ دخولُ اللامِ على من يُقصد تذكيره بالمثَل، نعم قد يُستعمل في هذا المعنى أيضاً كما في قوله سبحانه: { { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ } [التحريم: 11] ونظائرِه، على أن بعضَ الأمثالِ المضروبة لا سيما المثلُ الأخيرُ الموصول بالكلام ليس مثلَ الفريقين بل مثلٌ للحق والباطل ولا مساغ لجعل الفريقين مضروباً لهم أيضاً بأن يُجعل في حكم أن يقال: كذلك يضربُ الله الأمثالَ للناس إذ لا وجه حينئذ لتنويعهم إلى المستجيبـين وغيرِ المستجيبـين فتأمل.