التفاسير

< >
عرض

مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيْءٍ ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ
١٨
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ
١٩
وَمَا ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ
٢٠
وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ ٱلضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوۤاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا ٱللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ
٢١
-إبراهيم

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ } أي صفتُهم وحالُهم العجيبةُ الشأنِ التي هي كالمثل في الغرابة، وهو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى: { أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ } كقولك: صفةُ زيدٍ عرضُه مهتوكٌ ومالُه منهوب، وهو استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال من قال: ما بالُ أعمالِهم التي عمِلوها في وجوه البرِّ من صلة الأرحامِ، وإعتاقِ الرقاب، وفداءِ الأسارى، وإغاثةِ الملهوفين، وقِرىٰ الأضياف، وغير ذلك مما هو من باب المكارم حتى آل أمرُهم إلى هذا المآل؟ فأجيب بأن ذلك كرماد { ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ } حملتْه وأسرعتْ الذهاب به { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } العصْفُ اشتدادُ الريحِ وصف به زمانُها مبالغةً، كقولك: ليلةٌ ساكرةٌ وإنما السكورُ لريحها شُبّهت صنائعُهم المعدودةُ لابتنائها على غير أساسٍ من معرفة الله تعالى والإيمان به والتوجّه بها إليه تعالى برماد طيّرته الريحُ العاصفةُ، أو استئنافٌ مسوقٌ لبـيان أعمالِهم للأصنام، أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ كما هو رأيُ سيبويه أي فيما يتلى عليك مَثلُهم، وقوله: أعمالُهم بدلٌ من مَثَلُ الذين، وقوله: كرماد خبرُه { لاَّ يَقْدِرُونَ } أي يوم القيامة { مِمَّا كَسَبُواْ } من تلك الأعمال { عَلَىٰ شَىْء } ما، أي لا يرَوْن له أثراً من ثواب أو تخفيفِ عذابٍ كدأب الرماد المذكور، وهو فذلكةُ التمثيل، والاكتفاءُ ببـيان عدمِ رؤيةِ الأثر لأعمالهم للأصنام ـ مع أن لها عقوباتٍ هائلةً ـ للتصريح ببطلان اعتقادِهم وزعمِهم أنها شفعاءُ لهم عند الله تعالى وفيه تهكّمٌ بهم { ذٰلِكَ } أي ما دل عليه التمثيلُ دَلالةً واضحةً من ضلالهم مع حُسبانهم أنهم على شيء { هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ } عن طريق الصواب أو عن نيل الثواب.

{ أَلَمْ تَرَ } خطابٌ للرسول صلى الله عليه وسلم والمرادُ به أمتُه، وقيل: لكل أحد من الكفرة لقوله تعالى: { يُذْهِبْكُمْ } والرؤيةُ رؤيةُ القلب وقوله تعالى: { أَنَّ ٱللَّهَ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } سادٌّ مسدَّ مفعوليها، أي ألم تعلمْ أنه تعالى خلقهما { بِٱلْحَقّ } ملتبسةً بالحكمة والوجهِ الصحيح الذي يحِق أن تخلَقَ عليه، وقرىء خالقُ السموات والأرض { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } يُعدمْكم بالمرة { وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } أي يخلُق بدلكم خلقاً آخرَ مستأنَفاً لا علاقة بـينكم وبـينهم، رتب قدرتَه تعالى على ذلك على قدرته تعالى على خلق السموات والأرض على هذا النمط البديعِ إرشاداً إلى طريق الاستدلالِ فإن من قدَر على خلق مثلِ هاتيك الأجرامِ العظيمةِ كان على تبديل خلق آخرَ بهم أقدر ولذلك قال: { وَمَا ذٰلِكَ } أي إذهابُكم والإتيانُ بخلق جديد مكانكم { عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } بمتعذر أم متعسر فإنه قادرٌ بذاته على الممكِنات لا اختصاصَ له بمقدور دون مقدورٍ، ومَنْ هذا شأنُه حقيقٌ بأن يؤمَنَ به ويُرجىٰ ثوابُه ويُخشى عقابه.

{ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا } أي يبرُزون يوم القيامة، وإيثارُ صيغة الماضي للدَّلالة على تحقق وقوعِه كما في قوله سبحانه: { { وَنَادَى أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَـٰبَ ٱلنَّارِ } [الأعراف: 44] أو لأنه لا مُضِيَّ ولا استقبالَ بالنسبة إليه سبحانه، والمرادُ بروزُهم من قبورهم لأمر الله تعالى ومحاسبته، أو لله على ظنهم فإنهم كانوا يظنون عند ارتكابِهم الفواحشَ سراً أنها تخفىٰ على الله سبحانه، فإذا كان يومُ القيامة انكشفوا لله عند أنفسِهم { فَقَالَ ٱلضُّعَفَاء } الأتباعُ جمع ضعيف، والمرادُ ضعفُ الرأي، وإنما كتب بالواو على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة { لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ } لرؤسائهم الذين استتبعوهم واستغوَوْهم { إِنَّا كُنَّا } في الدنيا { لَكُمْ تَبَعًا } في تكذيب الرسل عليهم السلام والإعراضِ عن نصائحهم، وهو جمعُ تابع كغيب في جمع غائب، أو مصدر نُعت به مبالغةً، أو على إضمار أي ذوي تبع { فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ } دافعون { عَنَّا } والفاء للدِلالة على سببـية الاتباعِ للإغناء، والمرادُ التوبـيخُ والعتابُ والتقريعُ والتبكيت { مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَىْء } من الأولى للبـيان واقعةٌ موقعَ الحال، والثانية للتبعيض واقعةٌ موقعَ المفعول، أي بعضُ الشيء الذي هو عذابُ الله تعالى ويجوز كونُهما للتبعيض أي بعضَ شيءٍ هو بعضُ عذاب الله والإعراب كما سبق ويجوز أن تكون الأولى مفعولاً والثانية مصدراً أي فهل أنتم مغنون عنا بعضَ العذاب بعضَ الإغناء، ويعضُد الأولَ قوله تعالى: { فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مّنَ ٱلنَّارِ }.

{ قَالُواْ } أي المستكبرون جواباً عن معاتبة الأتباعِ واعتذاراً عما فعلوا بهم { لَوْ هَدَانَا ٱللَّهُ } أي للإيمان ووفّقنا له { لَهَدَيْنَاكُمْ } ولكن ضَلَلْنا فأضللناكم أي اخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا، أو لو هدانا الله طريقَ النجاة من العذاب لهديناكم وأغنينا عنكم كما عرّضناكم له، ولكن سُدّ دوننا طريقُ الخلاص ولاتَ حينَ مناص { سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا } مما لقِينا { أَمْ صَبَرْنَا } على ذلك أي مستوٍ علينا الجزَعُ والصبرُ في عدم الإنجاء، والهمزةُ وأم لتأكيد التسويةِ كما في قوله تعالى: { { سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } [البقرة: 6] وإنما أسندوهما ونسبوا استواءَهما إلى ضمير المتكلم المنتظِمِ للمخاطبـين أيضاً مبالغةً في النهي عن التوبـيخ بإعلام أنهم شركاءُ لهم فيها ابتُلوا به وتسليةً لهم، ويجوز أن يكون قوله: { سَوَاء عَلَيْنَا } الخ، من كلام الفريقين على مِنوال قوله تعالى: { { ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ } [يوسف: 52] ويؤيده ما روي (أنهم يقولون: تعالَوا نجزَعْ فيجزعون خمسَمائة عام فلا ينفعهم، فيقولون: تعالَوا نصبِرْ فيصبِرون كذلك فلا ينفعهم فعند ذلك يقولون ذلك)، ولما كان عتابُ الأتباع من باب الجزَعِ ذيّلوا جوابَهم ببـيان أن لا جدوى في ذلك فقالوا: { مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } من منجى ومهربٍ من العذاب، من حاص الحمارُ إذا عدل بالفرار، وهو إما اسمُ مكان كالمبـيت والمَصيف، أو مصدرٌ كالمغيب والمشيب وهي جملةٌ مفسِّرة لإجمال ما فيه الاستواءُ فلا محل لها من الإعراب، أو حالٌ مؤكدة، أو بدلٌ منه.