التفاسير

< >
عرض

رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ فَي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ
٣٨
ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ
٣٩
-إبراهيم

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ } من الحاجات وغيرِها، والمرادُ بما نُخفي ما يقابل ما نعلن سواءٌ تعلق به الإخفاءُ أو لا، أي تعلم ما نظهره وما لا نظهره فإن علمَه تعالى متعلّقٌ بما لا يخطُر بباله مما فيه من الأحوال الخفية فضلاً عن إخفائه، وتقديمُ ما نخفي على ما نعلن لتحقيق المساواةِ بـينهما في تعلق العلم بهما على أبلغ وجهٍ فكأن تعلقه بما يخفىٰ أقدمُ منه بما يُعلن، أو لأن مرتبة السرِّ والخفاءِ متقدمةٌ على مرتبة العلن إذ ما من شيء يُعلن إلا وهو قبل ذلك خفيٌّ فتعلقُ علمِه سبحانه بحالته الأولى أقدمُ من تعلقه بحالته الثانية، وقصدُه عليه السلام أن إظهارَ هذه الحاجات وما هو من مباديها وتتماتها ليس لكونها غيرَ معلومةٍ لك، بل إنما هو لإظهار العبوديةِ والتخشّعِ لعظمتك، والتذلّل لعزتك، وعرضِ الافتقارِ إلى ما عندك، والاستعجالِ لنيل أياديك. وتكريرُ النداءِ للمبالغة في الضراعة والابتهال، وضميرُ الجماعة لأن المرادَ ليس مجردَ علمِه تعالى بسرِّه وعلنه بل بجميع خفايا المُلك والملَكوت وقد حققه بقوله ـ على وجه الاعتراض ـ: { { وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِن شَىْء فَى ٱلأَرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاء } لما أنه العالمُ بالذات فما من أمر يدخُل تحت الوجود كائناً ما كان في زمان من الأزمان إلا ووجودُه في ذاته علمٌ بالنسبة إليه سبحانه، وإنما قال: وما يخفي على الله الخ، دون أن يقول: ويعلم ما في السموات والأرض تحقيقاً لما عناه بقوله: تعلم ما نخفي من أن علمَه تعالى بذلك ليس على وجه يكون فيه شائبةُ خفاءٍ بالنسبة إلى علمه تعالى كما يكون ذلك بالنسبة إلى علوم المخلوقاتِ، وكلمةُ في متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لشيءٍ، أي من شيء كائنٍ فيهما، أعمُّ من أن يكون ذلك على وجه الاستقرار فيهما، أو على وجه الجزئيةِ منهما أو بـيخفىٰ، وتقديمُ الأرض على السماء ـ مع توسيط لا بـينهما ـ باعتبار القربِ والبعدِ منا المستدعِيَـين للتفاوت بالنسبة إلى علومنا، والالتفاتُ من الخطاب إلى اسم الذاتِ المستجمعةِ للصفات لتربـية المهابةِ والإشعارِ بعلة الحُكمِ على نهج قوله تعالى: { { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } [الملك: 14] والإيذانِ بعمومه لأنه ليس بشأن يُختص به أو بمن يتعلق به، بل شاملٌ لجميع الأشياء فالمناسبُ ذكرُه تعالى بعنوان مصحِّحٍ لمبدإ الكلّ، وقيل: هو من كلام الله عز وجل وارد بطريق الاعتراض لتصديقه عليه السلام كقوله سبحانه: { وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ } ومن للاستغراق على الوجهين.

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى ٱلْكِبَرِ } أي مع كِبَري ويأسي عن الولد، قيّد الهبةَ به استعظاماً للنعمة وإظهاراً لشكرها { إِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ } رُوي أنه وُلد له إسماعيلُ وهو ابنُ تسعٍ وتسعين سنة، وولد له إسحاقُ وهو ابن مائةٍ واثنتي عشرة سنة أو مائة وسبعَ عشرة سنة. { إِنَّ رَبّى } ومالكَ أمري { لَسَمِيعُ ٱلدُّعَاء } لمجيبُه، من قولهم: سمِع الملكُ كلامَه إذا اعتدّ به، وهي من أبنية المبالغةِ العاملة عمَلَ الفعل أُضيف إلى مفعولِه أو فاعلِه بإسناد السماعِ إلى دعاء الله تعالى مجازاً، وهو مع كونه من تتمة الحمدِ والشكر إذ هو وصفٌ له تعالى بأن ذلك الجميلَ سنّته المستمرّةُ تعليلٌ على طريقة التذيـيل للهبة المذكورة، وفيه إيذانٌ بتضاعف النعمة فيها حيث وقعت بعد الدعاءِ بقوله: { { رَبّ هَبْ لِى مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينِ } [الصافات: 100] فاقترنت الهبةُ بقبول الدعوةِ، وتوحيدُ ضمير المتكلم وإن كان عَقيبَ ذكرِ هبتهما لما أن نعمةَ الهبةِ فائضةٌ عليه خاصة وهما من النعم لا من المنعَم عليهم.