التفاسير

< >
عرض

ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ
١٢٥
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ
١٢٦
-النحل

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ ٱدْعُ } أي مَنْ بُعثتَ إليهم من الأمة قاطبةً فحذف المفعولُ للتعميم أو افعل الدعوةَ كما في قولهم: يعطي ويمنع أي يفعل الإعطاءَ والمنع، فحذفُه للقصد إلى إيجاد نفسِ الفعل إشعاراً بأن عموم الدعوةِ غنيٌّ عن البـيان وإنما المقصودُ الأمرُ بإيجاد على وجه مخصوص { إِلِىٰ سَبِيلِ رَبّكَ } إلى الإسلام الذي عبّر عنه تارةً بالصراط المستقيم وأخرى بملة إبراهيمَ عليه السلام، وفي التعرض لعنوان الربوبـية المنبئةِ عن المالكية وتبليغِ الشيء إلى كماله اللائق شيئاً فشيئاً مع إضافة الربِّ إلى ضمير النبـي عليه الصلاة والسلام في مقام الأمر بدعوة الأمة على الوجه الحكيم وتكميلِهم بأحكام الشريعةِ الشريفة من الدِلالة على إظهار اللطفِ به عليه الصلاة والسلام والإيماءِ إلى وجه بناءِ الحُكم ـ ما لا يخفى. { بِٱلْحِكْمَةِ } أي بالمقالة المحكمةِ الصحيحة وهو الدليلُ الموضحُ للحق المزيحُ للشبهة { وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } أي الخطابـياتِ المقنعةِ والعِبر النافعةِ على وجه لا يخفى عليهم أنك تناصحهم وتقصِد ما ينفعهم، فالأولى لدعوة خواصِّ الأمةِ الطالبـين للحقائق والثانيةُ لدعوة عوامِّهم، ويجوز أن يكون المرادُ بهما القرآنَ المجيد فإنه جامعٌ لكلا الوصفين { وَجَـٰدِلْهُم } أي ناظِرْ معانديهم { بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } بالطريقة التي هي أحسنُ طرقِ المناظرةِ والمجادلة من الرفق واللينِ واختيار الوجهِ الأيسرِ واستعمالِ المقدّمات المشهورةِ تسكيناً لشغَبهم وإطفاءً لِلَهبهم كما فعله الخليلُ عليه السلام { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } الذي أمرك بدعوة الخلقِ إليه وأعرضَ عن قَبول الحق بعد ما عاين من الحِكم والمواعظ والعبر { وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } إليه بذلك، وهو تعليلٌ لما ذُكر من الأمرين والمعنى والله تعالى أعلم اسلُكْ في الدعوة والمناظرةِ الطريقةَ المذكورةَ فإنه تعالى هو أعلمُ بحال من لا يرعوي عن الضلال بموجب استعدادِه المكتسَب وبحال من يصير أمرُه إلى الاهتداء لما فيه من خير جليَ، فما شرعه لك في الدعوة هو الذي تقتضيه الحكمةُ فإنه كافٍ في هداية المهتدين وإزالةِ عذر الضالّين أو ما عليك إلا ما ذكر من الدعوة والمجادلةِ بالأحسن، وأما حصولُ الهداية أو الضلال والمجازاةُ عليهما فإلى الله سبحانه إذ هو أعلم بمن يَبقىٰ على الضلال وبمن يهتدي إليه فيجازي كلاًّ منهما بما يستحقة. وتقديمُ الضالين لما أن مساقَ الكلامِ لهم، وإيرادُ الضلال بصيغة الفعلِ الدالِّ على الحدوث لما أنه تغيـيرٌ لفطرة الله التي فطر الناسَ عليها وإعراضٌ عن الدعوة وذلك أمرٌ عارضٌ بخلاف الاهتداء الذي هو عبارةٌ عن الثبات على الفطرة والجرَيانِ على موجب الدعوةِ، ولذلك جيء به على صيغة الاسمِ المنبىءِ عن الثبات، وتكريرُ (هو أعلمُ) للتأكيد والإشعارِ بتبايُنِ حالِ المعلومَين ومآلهما من العقاب والثواب. وبعد ما أمره عليه الصلاة والسلام فيما يختص به من شأن الدعوةِ بما أمره به من الوجه اللائق عقّبه بخطاب شاملٍ له ولمن شايعه فيما يعم الكل فقال:

{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ } أي إن أردتم المعاقبةَ على طريقة قول الطبـيبِ للمَحْميِّ: إن أكلتَ فكلْ قليلاً { فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } أي بمثل ما فُعل بكم، وقد عبّر عنه بالعقاب على طريقة إطلاقِ اسمِ المسبَّبِ على السبب نحوُ كما تَدين تُدان أو على نهج المشاكلةِ، والمقصودُ إيجابُ مراعاةِ العدل مع مَنْ يناصبُهم من غير تجاوزٍ حين ما آل الجِدالُ إلى القتال وأدّى النزاعُ إلى القِراع، فإن الدعوةَ المأمورَ بها لا تكاد تنفك عن ذلك، كيف لا وهي موجبةٌ لصرف الوجوهِ عن القُبل المعبودةِ وإدخالِ الأعناق في قِلادة غيرِ معهودة قاضيةٍ عليهم بفساد ما يأتون وما يذرون وبطلانِ دينٍ استمرَّ عليه آباؤهم الأولون وقد ضاقت عليهم الحيلُ وعيّت بهم العِللُ وسُدّت عليهم طرقُ المُحاجّة والمناظرة وأُرتجتْ دونهم أبوابُ المباحثةِ والمحاورة. وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام لما رأى حمزةَ رضي الله عنه يوم أُحد قد مُثّل به قال: "لئن أظفَرني الله بهم لأمثّلنّ بسبعين مكانك" فنزلت، فكفّر عن يمينه وكف عما أراده، وقرىء وإن عَقّبتم فعقِّبوا أي وإن قَفَّيْتم بالانتصار فقفّوا بمثل ما فُعل بكم غيرَ متجاوزين عنه، والأمرُ وإن دل على إباحة المماثلة في المُثْلة من غير تجاوزٍ لكن في تقيـيده بقوله: وإن عاقبتم حثٌّ على العفو تعريضاً، وقد صرّح به على الوجه الآكد فقيل: { وَلَئِن صَبَرْتُمْ } أي عن المعاقبة بالمثل { لَهُوَ } أي لَصَبرُكم ذلك { خَيْرٌ } لكم من الانتصار بالمعاقبة، وإنما قيل: { لّلصَّـٰبِرينَ } مدحاً لهم وثناءً عليهم بالصبر أو وصفاً لهم بصفة تحصل لهم عند تركِ المعاقبةِ، ويجوز عَودُ الضميرِ إلى مطلق الصبرِ المدلولِ عليه بالفعل فيدخُل فيه صبرُهم كدخول أنفسِهم في جنس الصابرين دخولاً أولياً، ثم أُمر عليه الصلاة والسلام صريحاً بما ندَب إليه غيرَه تعريضاً من الصبر لأنه أولى الناس بعزائم الأمورِ لزيادة علمِه بشؤونه سبحانه ووفورِ وثوقِه به فقيل: