التفاسير

< >
عرض

وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً
٥٩
-الإسراء

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِٱلأَيَـٰتِ } أي الآياتِ التي اقترحتها قريشٌ من إحياء الموتى وقلبِ الصَّفا ذهباً ونحوِ ذلك { إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ } استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأشياء أي وما منعنا من إرسالها شيءٌ من الأشياء إلا تكذيبُ الأولين بها حين جاءتهم باقتراحهم، وعدمُ إرساله تعالى بها وإن كان بمشيئته المبنيةِ على الحِكَم البالغةِ لا لمنع مانعٍ عن ذلك من التكذيب أو غيرِه لاستحالة العجزِ عليه تعالى، لكنّ تكذيبَهم المذكورَ بواسطة استتباعِه لاستئصالِهم بحُكم السنة الإلٰهية واستلزامِه لتكذيب الآخرين بحكم الاشتراكِ في العتوّ والعناد وإفضائِه إلى أن يحِل بهم مثلُ ما حل بهم بحكم الشِرْكة في الجريرة، لمّا كان منافياً لإرسال ما اقترحوه من الآيات لتعين التكذيبِ المستدعي للاستئصال المخالفِ لما جرى به قلمُ القضاءِ من تأخير عقوباتِ هذه الأمةِ إلى الآخرة لحِكَمٍ باهرة من جملتها ما يُتوَّهم من إيمان بعض أعقابِهم، عَبّر عن تلك المنافاةِ بالمنع على نهج الاستعارةِ إيذاناً بتعاضد مبادي الإرسالِ لا كما زعَموا من عدم إرادتِه تعالى لتأيـيده عليه الصلاة والسلام بالمعجزات، وهو السرُّ في إيثار الإرسالِ على الإيتاء لما فيه من الإشعار بتداعي الآياتِ إلى النزول لولا أن تُمسْكَها يدُ التقدير، وإسنادُ هذا المنعِ إلى تكذيب الأولين لا إلى عمله تعالى بما سيكون من الآخرين كما في قوله تعالى: { { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [الأنفال: 23] لإقامة الحجةِ عليهم بإبراز الأُنموذج وللإيذان بأن مدارَ عدم الإجابةِ إلى إيتاء مقترحِهم ليس إلا صنيعَهم { وَآتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ } عطفٌ على ما يُفصح عنه النظمُ الكريمُ كأنه قيل: وما منعنا أن نُرسِلَ بالآيات إلا أن كذّب بها الأولون حيث آتيناهم ما اقترحوا من الآيات الباهرةِ فكذبوها، وآتينا باقتراحهم ثمودَ الناقةَ { مُبْصِرَةً } على صيغة الفاعل، أي بَـيّنةً ذاتَ إبصارٍ، أو بصائرَ يدركها الناسُ أو أُسند إليها حالُ من يشاهدها مجازاً، أو جاعلتَهم ذوي بصائرَ من أبصره جعله بصيراً، وقرىء على صيغة المفعول وبفتح الميم والصاد وهي نصبٌ على الحالية، وقرىء بالرفع على أنها خبرُ مبتدأ محذوف.

{ فَظَلَمُواْ بِهَا } فكفروا بها ظالمين أي لم يكتفوا بمجرد الكفرِ بها بل فعلوا بها ما فعلوا من العقْر، أو ظلموا أنفسَهم وعرّضوها للهلاك بسبب عقرِها، ولعل تخصيصَها بالذكر لما أن ثمودَ عربٌ مثلُهم وأن لهم من العلم بحالهم ما لا مزيدَ عليه من حيث يشاهدون آثارَ هلاكِهم وروداً وصُدوراً، أو لأنها من جهة إنها حيوانٌ أُخرج من الحجر أوضحُ دليلٍ على تحقق مضمونِ قوله تعالى: { { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } [الإسراء: 50] { وَمَا نُرْسِلُ بِٱلأَيَـٰتِ } المقترَحة { إِلاَّ تَخْوِيفًا } لمن أُرسلت هي عليهم مما يعقُبها من العذاب المستأصِل كالطليعة له، وحيث لم يخافوا ذلك فُعل بهم ما فعل فلا محل للجملة حينئذ من الإعراب، ويجوز أن تكون حالاً من ضمير ظلموا أي فظلموا بها ولم يخافوا عاقبتَه والحالُ أنا ما نُرسل بالآيات التي هي من جملتها إلا تخويفاً من العذاب الذي يعقُبها فنزل بهم ما نزل.