التفاسير

< >
عرض

بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
١١٧
وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
١١٨
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ بَدِيعُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ } أي مُبدِعُهما ومخترِعُهما بلا مثال يَحتذيه ولا قانونٍ ينتحيه فإن البديعَ كما يُطلقُ على المبتدِع يُطلق على المبتدَع نصَّ عليه أساطينُ أهل اللغة وقد جاء: بَدَعَه كمنعه بمعنى أنشأه كابتدعه كما ذُكر في القاموس وغيره، ونظيره السميع بمعنى المسمِع في قوله: [الوافر]

أَمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعي السميعُ[يؤرِّقُني وأصحابي هُجُوعُ]

وقيل: هو من إضافة الصفةِ المشبّهةِ إلى فاعلها للتخفيف بعد نصبه على تشبـيهها باسم الفاعِلِ كما هو المشهورُ أي بديعُ سمواتِه من بَدَع إذا كان على شكل فائقٍ وحُسْنٍ رائق، وهو حجة أخرى لإبطال مقالتِهم الشنعاءِ تقريرُها أن الوالدَ عنصرُ الولدِ المنفصلِ بانفصال مادته عنه والله سبحانه مُبدعُ الأشياء كلِّها على الإطلاق منزَّه عن الانفصال فلا يكون والداً، ورفعُه على أنه خبر لمبتدإٍ محذوف أي هو بديعُ الخ، وقرىء بالنصبَ على المدح وبالجرِّ على أنه بدل من الضمير في (له) على رأي من يجوز الإبدالَ من الضمير المجرور كما في قوله: [الطويل]

[على حالةٍ لو أن في القوم حاتماً]على جُوده لضنَّ بالماء حاتم

{ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا } أي أراد شيئاً كقوله: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً } [يس، الآية 86] وأصلُ القضاءِ الإحكامُ أُطلق على الإرادة الإلٰهية المتعلقة بوجود الشيء لإيجابها إياه اْلبتةَ وقيل: الأمر، ومنه قولُه تعالى: { { وَقَضَىٰ رَبُّكَ } [الإسراء، الآية 23] الخ { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } كلاهما من الكون التام أي أحْدَثَ وليس المرادُ به حقيقةَ الأمرِ والامتثال، وإنما هو تمثيلٌ لسهولة تأتّي المقدورات بحسَب تعلّقِ مشيئتِه تعالى وتصويرٌ لسرعة حُدوثِها بما هو عَلَمٌ في الباب من طاعة المأمورِ المطيعِ للآمر القويِّ المطاعِ، وفيه تقريرٌ لمعنى الإبداع وتلويحٌ لحجة أخرى لإبطال ما زعموه بأن اتخاذَ الولدِ شأنُ من يفتقرُ في تحصيل مرادِه إلى مبادىءَ يستدعي ترتيبُها مرورَ زمانٍ وتبدلَ أطوارٍ، وفعلُه تعالى متعالٍ عن ذلك { وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } حكاية لنوعٍ آخرَ من قبائحهم وهو قدحُهم في أمر النبوة بعد حكاية قدحِهم في شأن التوحيد بنسبة الولدِ إليه سبحانه وتعالى، واختُلف في هؤلاء القائلين: فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم اليهودُ وقال مجاهد: هم النصارىٰ ووصفُهم بعدم العلم لعدم علمِهم بالتوحيد والنبوة كما ينبغي، أو لعدم علمِهم بموجب عمَلِهم أو لأن ما يُحكىٰ عنهم لا يصدرُ عمن له شائبةُ علمٍ أصلاً. وقال قتادةُ: وأكثرُ أهل التفسير هم مشركو العربِ لقوله تعالى: { { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ ٱلأَوَّلُونَ } [الأنبياء، الآية 5] وقالوا: { { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا } [الفرقان، الآية 21] { لَوْلاَ يُكَلّمُنَا ٱللَّهُ } أي هلا يكلمُنا بلا واسطة أمراً ونهياً كما يكلم الملائكةَ أو هلا يكلمنا تنصيصاً على نُبوَّتِك { أو تأتينا آية } حجةٌ تدل على صدقك. بلغوا من العُتوِّ والاستكبار إلى حيث أمّلوا نيلَ مرتبةِ المفاوضة الإلٰهيةِ من غير توسط الرسولِ والملَك، ومن العنادِ والمكابرة إلى حيث لم يعُدّوا ما آتاهم من البـينات الباهرة التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبال من قَبـيل الآيات، قاتلهم الله أنى يؤفكون. { كَذٰلِكَ } مثلَ ذلك القولِ الشنيعِ الصادرِ عن العِناد والفساد { قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم } من الأمم الماضية { مِّثْلَ قَوْلِهِمْ } هذا الباطلِ الشنيعِ فقالوا: { أَرِنَا ٱللَّهِ جَهْرَةً } [النساء، الآية 153] وقالوا: { لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وٰحِدٍ } [سورة البقرة، الآية 61] الآية وقالوا: { { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } [المائدة، الآية: 112] الخ وقالوا { { ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً } [الأعراف، الآية: 138] الخ { تَشَـٰبَهَتْ قُلُوبُهُمْ } أي قلوبُ هؤلاءِ وأولئك في العمىٰ والعِناد وإلا لما تشابهت أقاويلُهم الباطلة { قَدْ بَيَّنَّا ٱلآيَـٰتِ } أي نزلناها بـينةً بأن جعلناها كذلك في أنفسِها كما في قولهم: سُبحان مَنْ صغّر البعوضَ وكبَّر الفيلَ لا أنا بـيناها بعد أن لم تكن بـينةً { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي يطلُبون اليقين ويوقنون بالحقائق لا يعتريهم شُبهةٌ ولا رِيبة، وهذا ردٌّ لطلبهم الآيةَ، وفي تعريف الآياتِ وجمعِها وإيرادِ النبـيـين المُفصِح عن كمال التوضيح مكانَ الإتيان الذي طلبوه ما لا يخفىٰ من الجزالة، والمعنى أنهم اقترحوا آيةً فذَّةً ونحن قد بـينا الآياتِ العظامَ لقوم يطلُبون الحقَّ واليقين، وإنما لم يُتعرَّضْ لرد قولِهم: { لَوْلاَ يُكَلّمُنَا ٱللَّهُ } [البقرة، الآية 118] إيذانا بأنه من ظهور البطلان بحيث لا حاجة له إلى الرد والجواب.