التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ
١٢٥
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

وقوله تعالى: { وَإِذْ جَعَلْنَا البـيْتَ } أي الكعبةَ المعظمةَ غلب عليها غلبةَ النجم على الثريا معطوفٌ على إذِ ابتلىٰ على أن العامل فيه هو العاملُ فيه أو مضمرٌ مستقل معطوف على المضمر الأول، والجعلُ إما بمعنى التصيـير فقوله عز وجل: { مَثَابَةً } أي مرجعاً يثوب إليه الزّوارُ بعدما تفرقوا عنه أو أمثالُهم أو موضِعَ ثوابٍ يثابون بحجِّه واعتمارِه، مفعولُه الثاني، وإما بمعنى الإبداع فهو حال من مفعوله، واللامُ في قوله تعالى: { لِلنَّاسِ } متعلقةٌ بمحذوف وقعَ صفةً لمثابةً أي مثابة كائنة للناس أو بجعلنا أي جعلناه لأجل الناس وقرىء مثاباتٍ باعتبار تعدّدِ التائبـين { وَأَمْناً } أي آمِنا كما في قوله تعالى: { حَرَماً ءامِناً } [القصص، الآية 57] على إيقاع المصدرِ موقعَ اسمِ الفاعلِ للمبالغة أو على تقدير المضافِ أي ذا أمنِ أو على الإسنادِ المجازي أي آمِنا بحجّهِ من عذابِ الآخرةِ من حيث أن الحجَّ يجُبُّ ما قبله أو مَنْ دخله من التعرُّض له بالعقوبة وإن كان جانياً حتى يخرجَ على ما هو رأيُ أبـي حنيفةَ، ويجوز أن يُعتبر الأمنُ بالقياس إلى كل شيء كائناً ما كان ويدخل فيه أمنُ الناس دخولاً أولياً وقد اعتيدَ فيه أمنُ الصيد حتى إن الكلبَ كان يهُمُّ بالصيد خارجَ الحرم فيفِرُّ منه وهو يتبعه فإذا دخل الصيد الحرمَ لم يتبعْه الكلبُ { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرٰهِيمَ مُصَلًّى } على إرادةِ قولٍ هو عطفٌ على (جعلنا) أو حال من فاعله أي وقلنا أو قائلين لهم اتخذوا الخ وقيل: هو بنفسهِ معطوفٌ على الأمرِ الذي يتضمنه قوله عز وجل: { مَثَابَةً لّلنَّاسِ } [البقرة، الآية 125] كأنه قيل: توبوا إليه واتخذوا الخ وقيل: على المضمرِ العاملِ في إذ وقيل: هي جملةٌ مستأنفةٌ والخطابُ على الوجوه الأخيرةِ له عليه السلام ولأمتهِ والأولُ هو الأليقُ بجزالةِ النظم الكريم، والأمرُ صريحاً كان أو مفهوماً من الحكاية للاستحباب ومن تبعيضية والمقام اسمُ مكانٍ وهو الحجَرُ الذي عليه أثر قدمُه عليه السلام والموضعُ الذي كان عليه حين قام ودعا الناسَ إلى الحجِّ أو حين رفع قواعدَ البـيت وهو موضعُه اليوم، والمراد بالمصلىٰ إما موضعُ الصلاة أو موضعُ الدعاء. رُوي "أنه صلى الله عليه وسلم أخذ بـيد عمرَ رضي الله عنه فقال: هذا مقامُ إبراهيم فقال عمر رضي الله عنه: أفلا نتخذهُ مصلًّى فقال: لم أُومرْ بذلك" فلم تغِبْ الشمسُ حتى نزلتْ. وقيل: المرادُ به الأمرُ بركعتي الطواف لما رَوىٰ جابر رضي الله عنه أنه عليه السلام لما فرَغ من طوافه عمَد إلى مقامِ إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ: { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرٰهِيمَ مُصَلًّى } وللشافعي في وجوبِهما قولان وقيل: مقامُ إبراهيمَ الحرمُ كلهُ وقيل: مواقفُ الحج عرفةُ والمزدَلِفةُ والجِمارُ، واتخاذُها مصلى أن يُدعىٰ فيها ويتقرَّبَ إلى الله عز وجل وقرىء واتخَذوا على صيغة الماضي عطفاً على جعلنا أي واتخذ الناسُ من مكان إبراهيمَ الذي وُسِمَ به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قِبلةً يصلّون إليها { وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ } أي أمرناهما أمراً مؤكداً { أَن طَهّرَا بَيْتِىَ } بأن طهِّراه، على أنّ (أنْ) مصدرية حذف عنها الجارُّ حذفاً مطرداً لجوازِ كون صلتِها أمراً ونهياً كما في قوله عز وجل: { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا } [يونس، الآية 105] لأن مدارَ جوازِ كونها فعلاً إنما هو دِلالتُه على المصدر وهي متحققةٌ فيهما، ووجوبُ كونِها خبرية في صلةِ الموصول الاسمي إنما هو للتوصّل إلى وصف المعارفِ بالجمل، وهي لا يوصف بها إلا إذا كانت خبرية، وأما الموصولُ الحرفيُّ فليس كذلك ولما كان الخبر والإنشاء في الدلالة على المصدرِ سواءً ساغَ وقوعُ الأمر والنهي صلةً حسب وقوعِ الفعل فيتجرّد عند ذلك عن معنى الأمر والنهي، نحوُ تجردِ الصلةِ الفعليةِ عن معنى المضيّ والاستقبال، أو أنْ طهراه على أنّ «أنْ» مفسرة لتضمن العهدِ معنى القولِ، وإضافةُ البـيت إلى ضمير الجلالة للتشريف، وتوجيهُ الأمر بالتطهيرِ ههنا إليهما عليهما السلام لا ينافي ما في سورةِ الحج من تخصيصِه بإبراهيمَ عليه السلامُ فإنَّ ذلك واقعٌ قبلَ بناءِ البـيتِ كما يُفصِحُ عنه قولُه تعالى: { { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرٰهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ } [الحج، الآية 26] وكان إسماعيلُ عليه السلام حينئذ بمعزلٍ من مثابةِ الخطابِ وظاهرٌ أنَّ هذا بعدَ بلوغِه مبلغَ الأمرِ والنهي وتمامِ البناء بمباشرته كما ينبىء عنه إيرادُهُ إثرَ حكايةِ جعلهِ مثابةً للناسِ الخ، والمرادُ تطهيرُه من الأوثانِ والأنجاسِ وطواف الجنُب والحائضِ وغيرِ ذلك مما لا يليقُ به { لِلطَّائِفِينَ } حوله { وَٱلْعَـٰكِفِينَ } المجاورين المقيمين عنده أو المعتكفين أو القائمين { وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } جمع راكع وساجد أي للطائفين والمصلين لأنَّ القيامَ والركوعَ والسجودَ من هيئاتِ المصلي ولتقاربِ الأخيرين ذاتاً وزماناً ترك العاطف بـين موصوفيهما. أو أخلِصاه لهؤلاءِ لئلا يغشاهُ غيرُهم وفيه، إيماءٌ إلى أن ملابسةَ غيرِهم به وإن كانت مع مقارنةِ أمرٍ مباحٍ مِن قبـيلِ تلويثِه وتدنيسِه.