التفاسير

< >
عرض

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٤١
سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
١٤٢
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْـئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } تكريرٌ للمبالغة في الزجر عما هم عليه من الافتخارِ بالآباء والاتكالِ على أعمالهم وقيل: الخطابُ السابق لهم وهذا لنا تحذيرٌ عن الاقتداء بهم وقيل: المرادُ بالأُمة الأولى الأنبـياءُ عليهم السلام وبالثانيةِ أسلافُ اليهود.

{ سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَاءُ } أي الذين خفّت أحلامُهم واستمهنوها بالتقليد والإعراضِ عن التدبر والنظرِ من قولهم ثوبٌ سفيهٌ إذا كان خفيفَ النسج وقيل: السفيهُ البهّاتُ الكذابُ المتعمدُ خلافَ ما يَعلم، وقيل: الظلومُ الجهولُ والمراد بالسفهاء هم اليهودُ على ما رُوي عن ابن عباس ومجاهدٍ رضي الله عنهم قالوه إنكاراً للنسخ وكراهةً للتحويل حيث كانوا يأنَسون بموافقته عليه الصلاة والسلام لهم في القِبلة الأولى وبُطلان الثانية إذ ليس كلُّهم من اليهود وقيل: هم المشركون ولم يقولوه كراهة للتحويل إلى مكةَ بل طعناً في الدين فإنهم كانوا يقولون رغِبَ عن قِبلة آبائه ثم رجَع إليها ولَيَرْجِعَنّ إلى دينهم أيضاً وقيل: هم القادحون في التحويل منهم جميعاً فيكون قوله تعالى: { مِنَ ٱلنَّاسِ } أي الكفرةِ لبـيانِ أن ذلك القول المَحْكيِّ لم يصدُر عن كل فردٍ فردٍ من تلك الطوائف الثلاث بل عن أشقيائهم المعتادين للخوض في فنون الفساد وهو الأظهر، إذ لو أريد بهم طائفة مخصوصة منهم لما كان لبـيان كونِهم من الناس مزيدُ فائدة، وتخصيصُ سفهائهم بالذكر لا يقتضي تسليمَ الباقين للتحويل وارتضاءَهم إياه بل عدم التفوه بالقدح مطلقاً أو بالعبارة المحكية.

{ مَا وَلَّـٰهُمْ } أي أيُّ شيءٍ صرفهم، والاستفهامُ للإنكار والنفي { عَن قِبْلَتِهِمُ } القبلة فِعلة من المقابلة كالوِجْهة وهي الحالة التي يقابِلُ الشيءُ غيرَه عليها كالجِلسة للحالة التي يقع عليها الجلوسُ يقال: لا قِبلة له ولا دِبْرَةَ إذا لم يهتدِ لجهة أمرِه، غلَبت على الجهة التي يستقبلها الإنسانُ في الصلاة، والمراد بها ههنا بـيتُ المقدس، وإضافتُها إلى ضمير المسلمين ووصفُها بقوله تعالى: { ٱلَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا } أي ثابتين مستمرين على التوجه إليها ومراعاتِها واعتقادِ حقّيتِها لتأكيد الإنكار، فإن الاختصاصَ بالشيء والاستمرارَ عليه باعتقاد حقّيتِه مما ينافي الانصرافَ عنه فإن أريد بالقائلين اليهودُ فمدَارُ الإنكارِ كراهتُهم للتحويل عنها وزعمُهم أنه خطأ وإن أريد بهم المشركون فمدارُه مجردُ القصدِ إلى الطعن في الدين والقدحِ في أحكامه، وإظهارُ أن كلاً من التوجه إليها والانصرافِ عنها واقعٌ بغير داعٍ إليه لا لكراهتهم الانصرافَ عنها أو التوجهَ إلى مكةَ وتعليقُ الإنكار بما يولّيهم عنها لا بما يوجههم إلى غيرها، مع تلازمهما في الوجود لما أن تركَ الدين القديمِ أبعدُ عن العقول وإنكارُ سببه أدخلُ لا للإيذان بأن المنكِرين هم اليهودُ بناءً على أن المنكرَ عندهم هو التحويلُ عن خصوصية بـيتِ المقدس الذي هو القِبلة الحقَّةُ عندهم لا التوجهُ إلى خصوصية قبلةٍ أخرى أو هم المشركون بناءً على أن المنكرَ عندهم تركُ القبلة القديمةِ على وجه الطعن والقدحِ لا التوجهُ إلى الكعبة لأنه الحقُّ عندهم فإنه بمعزلٍ عن ذلك كيف لا والمنافقون من أحد الفريقين لا محالة، والإخبارُ بذلك قبل الوقوعِ مع كونه من دلائل النبوة حيث وقع كما أُخبر لتوطين النفوس وإعدادِ ما يُبَكّتُهم فإن مفاجأةَ المكروهِ على النفس أشقُّ وأشدُّ، والجوابُ العتيد لشغَب الخصمِ الألدِّ أردُّ، وقولُه عز وجل: { قُل لّلَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ } استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا أقول عند ذلك؟ فقيل: قل الخ أي لله تعالى ناحيتا الأرضِ أي الجهاتُ كلُّها مُلْكاً وتصرفاً فلا اختصاصَ لناحيةٍ منها لذاتها بكونها قبلةً دون ما عداها بل إنما هو بأمر الله سبحانه ومشيئتِه { يَهْدِى مَن يَشَآء } أن يهديَه، مشيئةٌ تابعةٌ للحِكَم الخفية التي لا يعلمها إلا هو { إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } موصِلٍ إلى سعادة الدين وقد هدانا إلى ذلك حيث أمرنا بالتوجه إلى بـيت المقدس تارة وإلى الكعبة أخرى حسبما تقتضيه مشيئتُه المقارِنة لحِكَم أبـيّةٍ ومصالِحَ خفية.