التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ
١٥٩
إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
١٦٠
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ } قيل: نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا ما في التوراة من نُعوت النبـي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الأحكام. وعن ابن عباس ومجاهدٍ وقَتادةَ والحسنِ والسُّدي والربـيع والأصمِّ أنها نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وقيل: نزلت في كل من كتم شيئاً من أحكام الدين لعموم الحكمِ للكل، والأقربُ هو الأول فإن عمومَ الحُكم لا يأبىٰ خصوصَ السبب والكَتم والكتمان تركُ إظهارِ الشيء قصداً مع مساس الحاجة إليه وتحققِ الداعي إلى إظهاره، وذلك قد يكون بمجرد سَترِه وإخفائِه وقد يكون بإزالته ووضْعِ شيءٍ آخرَ في موضعه، وهو الذي فعله هؤلاء.

{ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَـٰتِ } من الآيات الواضحة الدالةِ على أمر محمد صلى الله عليه وسلم { وَٱلْهُدْىَ } أي والآياتِ الهاديةِ إلى كُنه أمرِه ووجوب اتباعِه والإيمانِ به، عَبَّر عنها بالمصدر مبالغةً ولم يُجمَعْ مراعاةُ للأصل وهي المرادة بالبـينات أيضاً والعطفُ لتغايُر العنوان كما في قوله عز وجل: { هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـٰتٍ } [البقرة، الآية 185] الخ وقيل: المراد بالهدى الأدلةُ العقلية ويأباه الإنزالُ والكتم { مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّـٰهُ لِلنَّاسِ } متعلق بـيكتمون والمرادُ بالناس الكلُّ لا الكاتمون فقط واللام متعلقة ببـيناه، وكذا الظرف في قوله تعالى: { فِى ٱلْكِتَـٰبِ } فإن تعلقَ جارَّيْن بفعلٍ واحدٍ عند اختلافِ المعنى مما لا ريب في جوازه أو الأخيرُ متعلقٌ بمحذوفٍ وقع حالاً من مفعوله أي كائناً في الكتاب وتبـيـينُها لهم تلخيصُه وإيضاحُه بحيث يتلقاه كلُّ أحد منهم من غير أن يكون له فيه شُبهةٌ، وهذا عنوانٌ مغايرٌ لكونه بـيناً في نفسه، و(هدىً) مؤكداً لقبح الكتم، أو تفهيمُه لهم بواسطة موسى عليه السلام والأول أنسبُ بقوله تعالى في الكتاب، والمرادُ بكتمه إزالتُه ووضعُ غيرِه في موضعه فإنهم محَوْا نعته عليه الصلاة والسلام وكتبوا مكانه ما يخالفه كما ذكرناه في تفسير قوله عز وعلا: { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَـٰبَ } [البقرة، الآية 79] الخ { أُوْلَـٰئِكَ } إشارةٌ إليهم باعتبار ما وصفوا به للإشعار بعلِّيته لما حاق بهم، وما فيه من معنى البعدُ للإيذان بتَرامي أمرهم وبُعد منزلتِهم في الفساد { يَلْعَنُهُمُ ٱللَّهُ } أي يطرُدهم ويبعدهم من رحمته، والالتفاتُ إلى الغَيبة بإظهار اسمِ الذاتِ الجامعِ للصفاتِ لتربـية المهابةِ وإدخالِ الروعةِ والإشعارِ بأن مبدأ صدورِ اللعن عنه سبحانه صفةُ الجلالِ المغايرةِ لما هو مبدأ الإنزال والتبـيـينِ من وصَفِ الجمالِ والرحمة { وَيَلْعَنُهُمُ ٱللَّـٰعِنُونَ } أي الذين يتأتىٰ منهم اللعنُ أي الدعاءُ عليهم باللعن من الملائكة ومؤمني الثقلين، والمرادُ بـيانُ دوام اللعنِ واستمرارُه، وعليه يدور الاستثناءُ المتصلُ في قوله تعالى: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } أي عن الكِتمان { وَأَصْلَحُواْ } أي ما أفسدوا بأن أزالوا الكلامَ وكتبوا مكانه ما كانوا أزالوه عند التحريف { وَبَيَّنُواْ } للناس معانيَه فإنه غير الإصلاح المذكور، أو بـينوا لهم ما وقع منهم أولاً وآخراً، فإنه أدخلُ في إرشاد الناس إلى الحق، وصرفُهم عن طريق الضلال الذي كانوا أوقعوهم فيه أو بـيّنوا توبتَهم ليمحُوا به سِمةَ ما كانوا فيه ويقتديَ بهم أضرابُهم، وحيث كانت هذه التوبة المقرونةُ بالإصلاح والتبـيـين مستلزمةً للتوبة عن الكفر مبـينةً عليها لم يصرَّحْ بالإيمان. وقولُه تعالى: { فَأُوْلَـٰئِكَ } إشارةٌ إلى الموصولِ باعتبار اتصافِه بما في حيز الصلةِ للإشعار بعلّيته للحكم، والفاءُ لتأكيد ذلك { أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } أي بالقَبول وإفاضةِ المغفرة والرحمة، وقوله تعالى: { وَأَنَا ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } أي المبالغُ في قبول التوْب ونشرِ الرحمةِ، اعتراضٌ تذيـيليٌّ محققٌ لمضمون ما قبله، والالتفاتُ إلى التكلم للافتنان في النظمِ الكريم مع ما فيه من التلويحِ والرمزِ إلى ما مر من اختلاف المبدأ في فِعليه تعالىٰ السابقِ واللاحِقِ.