التفاسير

< >
عرض

وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ
١٩٥
وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
١٩٦
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } أمرٌ بالجهاد بالمال بعد الأمرِ به بالأنفس، أي ولا تُمسِكوا كلَّ الإمساك، { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } بالإسراف وتضيـيعِ وجهِ المعاش أو بالكفِّ عن الغزو والإنفاق فيه فإن ذلك مما يقوِّي العدوَّ ويُسلِّطُه عليكم. ويؤيدُه ما رُوي عن أبـي أيوبَ الأنصاريِّ رضي الله عنه أنه قال: لما أعزَّ الله الإسلامَ وكثُر أهلُه رجعنا إلى أهالينا وأموالنا نُقيمُ فيها ونُصلِحها فنزلت، أو بالإمساك وحبِّ المال فإنه يؤدّي إلى الهلاك المؤبَّد ولذلك سُمي البخلُ هلاكاً وهو في الأصل انتهاءُ الشيء في الفساد، والإلقاءُ طرحُ الشيء، وتعديتُه بإلى لتضمُّنه معنى الانتهاء والباءُ مزيدةٌ، والمرادُ بالأيدي الأنفسُ والتهلُكة مصدر كالتنصُرَة والتستُرة وهي والهُلك واحدٌ أي لا توقِعوا أنفسَكم إليها فحُذِف المفعول { وَأَحْسِنُواْ } أي أعمالَكم وأخلاقَكم أو تفضّلوا على الفقراء { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي يريد بهم الخيرَ وقوله تعالى: { وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ } بـيانٌ لوجوب إتمامِ أفعالهما عند التصدي لأدائهما وإرشادٍ للناس إلى تدارُك ما عسى يعتريهم من العوارض المُخِلَّة بذلك من الإحصار ونحوه من غير تعرُّضٍ لحالهما في أنفسهما من الوجوب وعدمِه كما في قوله تعالى: { { ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ } [البقرة، الآية 187] فإنه بـيانٌ لوجوب مدِّ الصيام إلى الليل من غير تعرُّضٍ لوجوب أصلِه وإنما هو بقوله تعالى: { { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ } [البقرة، الآية 183] الآية، كما أن وجوبَ الحج بقوله تعالى: { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } [آل عمران، الآية 97] الآية، فإن الأمرَ بإتمام فعلٍ من الأفعال ليس أمراً بأصله ولا مستلزماً له أصلاً فليس فيه دليل على وجوب العُمرة قطعاً، وادعاءُ أن الأمرَ بإتمامهما أمرٌ بإنشائهما تامين كاملين حسبما تقتضيه قراءةُ وأقيموا الحجَّ والعُمرة وأن الأمرَ للوجوب ما لم يدلَّ على خلافه دليل مما لا سَدادَ له ضرورةَ أنْ ليس البـيانُ مقصوراً على أفعال الحجِّ المفروضِ حتى يُتصوَّرَ ذلك، بل الحقُّ أن تلك القراءةُ أيضاً محمولةٌ على المشهورة ناطقةٌ بوجوب إقامةِ أفعالهما كما ينبغي من غير تعرُّضٍ لحالهما في أنفسهما فالمعنى أكمِلوا أركانَهما وشرائطَهما وسائرَ أفعالِهما المعروفةِ شرعاً لوجه الله تعالى من غير إخلالٍ منكم بشيء منها.

هذا وقد قيل: «إتمامُهما أن تحرِمَ بهما من دُوَيرَة أهلِك». رُوي ذلك عن عليَ وابن عباسٍ وابن مسعود رضي الله عنهم وقيل: «أن تُفرِدَ لكل واحدٍ منها سَفَراً» كما قال محمد: حَجةٌ كوفية وعُمرةٌ كوفية أفضلُ. وقيل: هو جعلُ نفقتِهما حلالاً وقيل: أن تُخلِصوهما للعبادة ولا تشوبوهما بشيء من الأغراض الدنيوية وأياً ما كان فلا تعرُّضَ في الآية الكريمة لوجوب العُمرة أصلاً وأما ما رُوي أن ابنَ عباس رضي الله عنهما قال: إن العمرةَ لقرينةُ الحجِّ، وقولُ عمرَ رضي الله عنه: هُديتَ لسنة نبـيِّك حين قال له رجلٌ وجدتُ الحجَّ والعمرة مكتوبـين علي فأهلَلْتُ بهما. وفي رواية فأهللتُ بهما جميعاً فبمعزلٍ من إفادة الوجوب مع كونه معارَضاً بما رُوي "عن جابرٍ أنه قال: يا رسولَ الله العمرةُ واجبةٌ مثلَ الحجِّ؟ قال: لا، ولكن أن تعتمِرَ خيرٌ لك" ، وبقوله عليه السلام: "الحجُّ جهاد والعُمرةُ تطوُّعٌ فتدبر" { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } أي مُنعتم من الحج يقال: حصَره إذا حبَسه ومنعه من المُضيِّ لوجهه مثلُ صَدَّه وأصدّه والمرادُ منعُ العدو عند مالكٍ والشافعيِّ رضي الله عنهما لقوله تعالى: { فَإِذَا أَمِنتُمْ } ولنزوله في الحديبـية ولقولِ ابنِ عباسٍ: لا حصْرَ إلا حصرُ العدوِّ وكلُّ منعٍ من عدو أو مرضٍ أو غيرهما عند أبـي حنيفة رضي الله عنه، لما رُوي عن النبـي صلى الله عليه وسلم من كُسِر أو عَرَج فعليه الحجُّ من قابل { فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ } أي فعليكم أو فالواجبُ ما استيسر أو فاهدوا ما استيسر والمعنى أن المُحرِم إذا أُحصر وأراد أن يتحلّل تحلَّل بذبح هدْي مما تيسر عليه من بدَنة أو بقرةٍ أو شاة حيث أُحصر عند الأكثر، وعندنا يَبعث به إلى الحرَم ويجعلُ للمبعوث بـيده يومَ أمارٍ فإذا جاء اليومُ وظن أنه ذبح تحلّل لقوله تعالى: { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ } أي لا تُحِلوا حتى تعلموا أن الهديَ المبعوثَ إلى الحرم بلغ مكانه الذي يجب أن يُنْحَر فيه، وحمل الأولون بلوغَ الهدْي مَحِلّه على ذبحه فيه حِلاًّ كان أو حَرَماً ومرجعُهم في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبحَ عامَ الحديبـية بها وهي من الحِل قلنا: كان مُحْصَرُه عليه الصلاة والسلام طرفَ الحديبـية الذي إلى أسفلِ مكةَ وهو من الحَرَم، وعن الزُهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحرَ هديَه في الحَرَم، وقال الواقديُّ: الحديبـيةُ هي طرفُ الحرم على تسعة أميالٍ من مكةَ والمَحِلُّ بالكسر يُطلق على المكان والزمان، والهدْيُ جمع هَدْية كجَدْي وجَدْية وقرىء من الهَدِيّ جمع هَديّة كمَطِيّ ومطية { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } مرَضاً مُحوجاً إلى الحَلْق{ أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ } كجراحة أو قُمَّلٍ { فَفِدْيَةٌ } أي فعليه فديةُ إن حلق { مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } بـيانٌ لجنس الفدية وأما قدرُها فقد رُوي "أنه صلى الله عليه وسلم قال لكعب بنِ عُجرةَ: لعلك آذاك هَوامُّك قال: نعم يا رسولَ الله قال: احلِقْ وصُم ثلاثةَ أيام أو تصدّقْ بفَرْقٍ على ستةِ مساكينَ أو انسُك شاةً والفَرْقُ ثلاثة آصُع" { فَإِذَا أَمِنتُمْ } أي الإحصار أو كنتم في حال أمن أو سعة { فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجّ } أي فمن انتفع بالتقرُّب إلى الله تعالى بالعُمرة قبل الانتفاعِ بتقرّبه بالحج في أشهره، وقيل: من استمتع بعد التحلُّل من عُمرته باستباحة محظوراتِ الإحرام إلى أن يُحرِم بالحج { فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ } أي فعليه دمٌ استيسر عليه بسبب التمتع وهو دمُ جُبرانٍ يذبحه إذا أحرَمَ بالحج، ولا يأكلُ منه عند الشافعي وعندنا هو كالأضحية { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } أي الهديَ { فَصِيَامُ ثَلَـٰثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجّ } أي في أشهره بـين الإحرامين، وقال الشافعيُّ في أيام الاشتغالِ بأعماله بعد الإحرام وقبل التحلل، والأحب أن يصومَ سابعَ ذي الحِجة وثامنَه وتاسعَه فلا يصح يومَ النحرِ وأيامَ التشريق { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } أي نفَرْتم وفرَغتم من أعماله وفي أحدِ قولي الشافعيِّ إذا رجعتم إلى أهليكم، وقُرىء وسبعةً بالنصب عطفاً على محل ثلاثةِ أيام { تِلْكَ عَشَرَةٌ } فذلكةُ الحسابِ وفائدتُها ألا يُتَوَهّم أن الواوَ بمعنى أو كما في قولك: جالسِ الحسنَ وابنَ سيرين، وأن يُعلم العددُ جملةً كما عُلم تفصيلاً فإن أكثرَ العرب لا يعرِفُ الحسابَ وأن المرادَ بالسبعة هو العددُ المخصوصُ دون الكثرة كما يراد بها ذلك أيضاً { كَامِلَةٌ } صفةٌ مؤكدةٌ لعشَرة تفيد المبالغةَ في المحافظة على العدد أو مبـيِّنةٌ لكمال العشرة فإنها أولُ عددٍ كاملٍ إذْ بهِ ينتهي الآحادُ ويتم مراتبُها أو مقيِّدة تفيدُ كمالَ بَدَليتها من الهدْي { ذٰلِكَ } إشارةٌ إلى التمتع عندنا وإلى الحكم المذكورِ عند الشافعي { لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } وهو مَنْ كان من الحرَم على مسافة القصْرِ عند الشافعي ومن كان مسكنُه وراءَ الميقاتِ عندنا وأهلُ الحل عند طاوس وغيرُ أهل مكةَ عند مالك { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } في المحافظة على أوامره ونواهيه لا سيما في الحج { وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } لمن لم يَتَّقْهِ كي يصُدَّكم العلمُ به عن العِصيان، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضعِ الإضمارِ لتربـية المهابةِ وإدخالِ الرَّوْعة.