التفاسير

< >
عرض

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ
٢١٤
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
٢١٥
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ أَمْ حَسِبْتُمْ } خوطب به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين حثًّا لهم على الثبات على المصابرة على مخالفة الكفَرَة وتحمُّل المشاقِّ من جهتهم إثر بـيانِ اختلافِ الأممِ على الأنبـياء عليهم السلام، وقد بُـيّن فيه مآلُ اختلافِهم وما لَقِيَ الأنبـياءُ ومَنْ معهم من قبلهم من مكابدة الشدائد ومقاساة الهموم وأن عاقبة أمرِهم النصرُ وأم منقطعة والهمزةُ فيها للإنكار والاستبعاد أي بل أحسبتم { أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } من الأنبـياء ومن معهم من المؤمنين أي والحال أنه لم يأتِكم مثلُهم بعد ولم تبتلوا بما ابتُلوا به من الأحوال الهائلةِ التي هي مَثَلٌ في الفظاعة والشدّة وهو متوقَّعٌ ومنتظَرٌ { مَسَّتْهُمْ } استئنافٌ وقعَ جواباً عما ينساقُ إليه الذهن كأنه قيل وكيف كان مثلهم فقيل: مسَّتْهم { ٱلْبَأْسَاءُ } أي الشدَّةُ من الخوف والفاقةِ { وَٱلضَّرَّاءُ } أي الآلامُ والأمراضُ { وَزُلْزِلُواْ } أي أزْعجوا إزعاجاً شديداً بما دَهَمهم من الأهوال والأفزاعِ { حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ } أي انتهى أمرُهم من الشدة إلا حيث اضطَرَّهم الضَّجرُ إلى أن يقول الرسولُ وهو أعلمُ الناس بشؤون اللَّهِ تعالى وأوثقُهم بنصره والمؤمنون المقتدون بآثاره المستضيئون بأنواره { مَتَىٰ } أي متى يأتي { نَصْرُ ٱللَّهِ } طلباً وتمنياً له واسْتطالةً لمدة الشدة والعناءِ، وقرىء حتى يقولُ بالرفع على أنه حكايةُ حالٍ ماضيةٍ وهذا كما ترى غايةُ الغاياتِ القاصيةِ ونهايةُ النهايات النائيةِ كيف لا والرسلُ مع علوّ كعبهم في الثبات والاصطبارِ حيث عيلَ صبرُهم وبلغوا هذا المبلغَ من الضجر والضجيج عُلم أن الأمرَ بلغ إلى غاية لا مطمَحَ وراءَها { أَلا إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ } على تقدير القولِ أي فقيل لهم حينئذٍ ذلك إسعافاً لمرامهم، والمرادُ بالقرب القُربُ الزمانيُّ، وفي إيثار الجملة الاسميةِ على الفعلية المناسبة لما قبلها وتصديرها بحرف التنبـيه والتأكيد من الدلالة على تحقيق مضمونها ما لا يخفى، واختيارُ حكاية الوعد بالنصر لما أنها في حكم إنشاء الوعدِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتصارُ على حكايتها دون حكايةِ نفسِ النصر مع تحققه للإيذان بعدم الحاجة إلى ذلك لاستحالة الخُلْف ويجوز أن يكون هذا وارداً من جهته تعالى عند الحكاية على نهج الاعتراض لا وارداً عند وقوعِ المحكي، وفيه رمزٌ إلى أن الوصولَ إلى جناب القدسِ لا يتسنَّى إلا برفض اللذاتِ ومكابدةِ المشاقِّ كما يُنبىء عنه قولُه عليه السلام: "حُفّتِ الجنَّةُ بالمكاره وحُفّتِ النَّارُ بالشَّهواتِ" .

{ يَسْـئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ } أي من أصناف أموالِهم { قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ } ما إما شرطية وإما موصولة حُذف العائدُ إليها أي ما أنفقتموه من خير أي خير كان ففيه تجويزُ الإنفاق من جميع أنواعِ الأموالِ وبـيانٌ لما في السؤال، إلا أنه جُعل من جملة ما في حيز الشرطِ أو الصلة وأُبرِز في معرِض بـيانِ المصرِفِ حيث قيل: { فَلِلْوٰلِدَيْنِ وَٱلأقْرَبِينَ } للإيذان بأن الأهمَّ بـيانُ المصارفِ المعدودة لأن الاعتدادَ بالإنفاق بحسب وقوعِه في موقعه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاء عمْرُو بنُ الجَموحِ وهو شيخٌ هِمٌّ له مالٌ عظيم فقال: يا رسول الله ماذا نُنفق من أموالنا وأين نضعُها؟ فنزلت { وَٱلْيَتَـٰمَىٰ } أي المحتاجين منهم { وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } ولم يتعرضْ للسائلين والرقاب إما اكتفاءً بما ذكر في المواقع الأُخَرِ، وإما بناءً على دخولهم تحت عموم قوله تعالى: { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } فإنه شاملٌ لكل خير واقعٍ في أي مصرِفٍ كان { فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } فيوفّي ثوابَه، وليس في الآية ما ينافيه فرضُ الزكاة ليُنْسخَ به كما نُقل عن السُدي.