التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ
٢٤٩
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ } أي انفصل بهم عن بـيت المقدسِ والأصلُ فصلَ نفسَه، ولما اتحد فاعلُه ومفعولُه شاع استعمالُه محذوفَ المفعول حتى نزل منزِلة القاصِرِ كانفصل، وقيل: فصَل فصُولاً وقد جُوّز كونه أصلاً برأسه ممتازاً من المتعدي بمصدره كوقف وقوفاً ووقَفه وقفاً وكصدَّ صُدوداً وصدَّه صداً ورجَع رجوعاً ورجَعه رجعاً، والباء متعلقة بمحذوف وقع حالاً من طالوت أي ملتبساً بهم ومصاحباً لهم. رُوي أنه قال لقومه: «لا يخرج معي رجل بنىٰ بناءً لم يفرُغْ منه ولا تاجرٌ مشتغلٌ بالتجارة ولا متزوجٌ بامرأة لم يبْنِ عليها ولا أبتغي إلا الشابَّ النشيطَ الفارغ» فاجتمع إليه ممن اختارهم ثمانون ألفاً وكان الوقت قَيظاً وسلكوا مفازةً فسألوا أن يُجرِيَ الله تعالى لهم نهراً فبعد ما ظهر له ما تعلقت به مشيئتُه تعالى من جهة النبـي عليه السلام أو بطريق الوحي عند من يقول بنبوته { قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ } بفتح الهاء وقرىء بسكونها { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ } أي ابتدأ شُربه من النهر بأن كرَع لأنه الشرب منه حقيقة { فَلَيْسَ مِنّي } أي من جُملتي وأشياعي المؤمنين وقيل: ليس بمتصلٍ بـي ومتحدٍ معي من قولهم: فلان مني كأنه بعضُه لكمال اختلاطِهما { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } أي لم يذُقه من طعِم الشيءَ إذا ذاقه مأكولاً كان أو مشروباً أو غيرَهما قال: [الطويل]

وإن شئت حرمتُ النساءَ سواكموإن شئت لم أطعَمْ نُقاخاً ولا بردا

أي نوماً { فَإِنَّهُ مِنّى إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } استثناء من قوله تعالى: { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي } [البقرة، الآية: 249] وإنما أُخّر عن الجملة الثانية لإبراز كمالِ العناية بها ومعناه الرخصةُ في اغتراف الغرفةِ باليد دون الكَرْع والغرفة ما يُغرَف، وقرىء بفتح الغين على أنها مصدرٌ والباء متعلقةٌ باغترف أو بمحذوف وقعَ صفةً لغرفة أي غرفةً كائنةً بـيده. يُروىٰ أن الغرفة كانت تكفي الرجل لشربه وإدواتِه ودوابِّه وأما الذين شرِبوا منه فقد اسودت شفاهُهم وغلبهم العطشُ { فَشَرِبُواْ مِنْهُ } عطفٌ على مقدر يقتضيه المقامُ أي فابتلُوا به فشرِبوا منه { إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ } وهم المشارُ إليهم فيما سلف بالاستثناء من التولي وقرىء إلا قليلٌ منهم ميلاً إلى جانب المعنىٰ وضرباً عن عُدوة اللفظِ جانباً فإن قوله تعالى: { فَشَرِبُواْ مِنْهُ } في قوة أن يقال: فلم يُطيعوه فحُقَّ أن يرد المستثنى مرفوعاً كما في قول الفرزدق: [الطويل]

وعضُّ زمانٍ يا ابنَ مروانَ لم يدَعمن المال إلا مُسحَتٌ أو مُجلِّفُ

فإن قوله لم يدع في حكم لم يبق { فَلَمَّا جَاوَزَهُ } أي النهرَ { هُوَ } أي طالوتُ { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ } عطفٌ على الضمير المتصلِ المؤكدِ بالمنفصل، والظرفُ متعلقٌ بجاوزَ لا بآمنوا وقيل: الواوُ حالية والظرفُ متعلقٌ بمحذوف وقع خبراً من الموصول كأنه قيل: فلما جاوزه والحالُ أن الذين آمنوا كائنون معه وهم أولئك القليلُ وفيه إشارةٌ إلى أن مَنْ عداهم بمعزل من الإيمان { قَالُواْ } أي بعضُ مَنْ معه من المؤمنين لبعضٍ { لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } أي بمحاربتهم ومقاومتِهم فضلاً عن أن يكونَ لنا غلبةٌ عليهم لما شاهدوا من الكثرة والشدة، قيل: كانوا مائةَ ألفِ مقاتلٍ شاكي السِّلاح { قَالَ } استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قال مخاطبُهم؟ فقيل قال: { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ ٱللَّهِ } قيل: أي الخُلَّصُ منهم الذين يوقنون بلقاءِ الله تعالى بالبعث ويتوقّعون ثوابَه، وإفرادُهم بذلك الوصف لا ينافي إيمانَ الباقين فإن درجاتِ المؤمنين في التيقن والتوقع مُتفاوتةٌ أو الذين يعلمون أنهم يُستشهدون عما قريب فيلقَوْن الله تعالى، وقيل: الموصولُ عبارةٌ عن المؤمنين كافةً والضميرُ في قالوا للمنخذِلين عنهم كأنهم قالوه اعتذاراً عن التخلُّف والنهرُ بـينهما.

{ كَم مّن فِئَةٍ } أي فِرْقة وجماعة من الناس من فأَوْتُ رأسَه إذا شققتها أو من فاء إليه إذا رجَع فوزنُها على الأول فِعةٌ وعلى الثاني فِلَةٌ { قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً } وكم خبرية كانت أو استفهامية مفيدةٌ للتكثير وهي في حيز الرفعِ بالابتداء خبرُها غلبتْ أي كثيرٌ من الفئات القليلةِ غلبت الفئاتِ الكثيرةَ { بِإِذْنِ ٱللَّهِ } أي بحُكمه وتيسيرِه فإن دورانَ كافةِ الأمور على مشيئته تعالى فلا يذِلُّ من نصرَه وإن قل عددُه ولا يعِزُّ مَنْ خَذله وإن كثُرت أسبابُه وعُددُه وقد روُعيَ في الجواب نُكتةٌ بديعة حيث لم يقُلْ أطاقت بفئة كثيرةٍ حسبما وقع في كلام أصحابهم مبالغةً في رد مقالتِهم وتسكينِ قلوبهم، وهذا كما ترى جواب ناشىء من كمال ثقتِهم بنصر الله تعالى وتوفيقه ولا دخل في ذلك لظن لقاءِ الله تعالى بالبعث لا سيما بالاستشهاد فإن العلمَ به ربما يورِثُ اليأسَ من الغَلَبة ولا لتوقُّع ثوابِه تعالى ولا ريب في أن ما ذُكر في حيز الصلةِ ينبغي أن يكونَ مداراً للحكم الواردِ على الموصول فلا أقلَّ من أن يكون وصفاً ملائماً له، فلعل المرادَ بلقائه تعالى لقاءُ نصرِه وتأيـيدُه عُبر عنه بذلك مبالغةً كما عُبر عن مقارَنةِ نصرِه تعالى لمعيَّته سبحانه حيث قيل: { وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ } فإن المرادَ به معيّةُ نصرِه وتوفيقِه حتماً، وحملُها على المعية بالإثابة كما فعل يأباه أنهم إنما قالوه تتميماً لجوابهم وتأيـيداً له بطريق الاعتراضِ التذيـيليِّ تشجيعاً لأصحابهم وتثبـيتاً لهم على الصبر المؤدي إلى الغَلَبة، ولا تعلّقَ له بما ذكر من المعية بالإثابة قطعاً وكذا الحالُ إذا جُعل ذلك ابتداءَ كلامٍ من جهة الله تعالى جيء به تقريراً لكلامهم، والمعنى قال الذين يظنون أو يعلمون من جهة النبـي أو من جهة التابوتِ والسكينة أنهم ملاقو نصرِ الله العزيزِ: كم من فئةٍ قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله تعالى فنحن أيضاً نغلِبُ جالوتَ وجنودَه، وإيرادُ خبرِ أن اسماً مع أن اللقاءَ مستقبلٌ للدَلالة على تقرره وتحققه.