التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
٢٥٨
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِى حَاجَّ إِبْرٰهِيمَ فِى رِبّهِ } استشهادٌ على ما ذكر من أن الكفَرةَ أولياؤُهم الطاغوتُ وتقريرٌ له على طريقة قوله تعالى: { { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ } [الشعراء، الآية 225] كما أن ما بعده استشهاد على ولايته تعالى للمؤمنين وتقريرٌ لها وإنما بُدىء بهذا لرعاية الاقترانِ بـينه وبـين مدلولِه ولاستقلاله بأمر عجيبٍ حقيق بأن يُصدَّر به المقالُ وهو اجتراؤه على المُحاجّة في الله عز وجل وما أتى بها في أثنائها من العظيمة المنادية بكمال حماقته ولأن فيما بعده تعدداً وتفصيلاً يورث تقديمُه انتشار النظم على أنه قد أشير في تضاعيفه إلى هداية الله تعالى أيضاً بواسطة إبراهيمَ عليه السلام فإن يحكى عنه من الدعوة إلى الحق وإدحاضِ حجةِ الكافر من آثار ولايته تعالى، وهمزةُ الاستفهامِ لإنكار النفي وتقريرِ المنفي أي ألم تنظُرْ أو ألم ينتهِ علمُك إلى هذا الطاغوت المارد كيف تصدى لإضلال الناس وإخراجهم من النور إلى الظلمات أي قد تحققت الرؤيةُ وتقرَّرت بناءً على أن أمره من الظهور بحيث لا يكاد يخفىٰ على أحد ممن له حظٌّ من الخطاب فظهر أن الكفَرةَ أولياؤُهم الطاغوتُ وفي التعرض لعنوان الربوبـية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام تشريفٌ له وإيذانٌ بتأيـيده في المُحاجة { أَنْ آتَـٰهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ } أي لاِءَنْ آتاه إياه حيث أبطره ذلك وحملَه على المُحاجّة أو حاجه لأجله وضعاً للمُحاجّة التي هي أقبحُ وجوهِ الكفر موضعَ ما يجبُ عليه من الشكر كما يقال: عاديتني لاِءَن أحسنتُ إليك، أو وقتَ أن آتاه الله الملكَ وهو حجةٌ على من منع إيتاءَ الله المُلك للكافر.

{ إِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ } ظرفٌ لحاجَّ أو بدلٌ من آتاه على الوجه الأخير { رَبّيَ ٱلَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ } بفتح ياء ربـي وقرىء بحذفها. رُوي أنه عليه الصلاة والسلام لما كسر الأصنام سجنه ثم أخرجه فقال: من ربُّك الذي تدعو إليه؟ قال: "ربـي الذي يُحيـي ويميت" أي يخلُق الحياةَ والموتَ في الأجساد { قَالَ } استئنافٌ مبني على السؤال كأنه قيل: كيف حاجّه في هذه المقالة القوية الحقة؟ فقيل قال: { أنا أحيى وأميت } رُوي أنه دعا برجلين فقتل أحدَهما وأطلق الآخر فقال ذلك { قَالَ إِبْرٰهِيمُ } استئنافٌ كما سلف كأنه قيل: فماذا قال إبراهيمُ لمن في هذه المرتبة من الحماقة وبماذا أفحمه؟ فقيل قال: { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِى بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ } حسبما تقتضيه مشيئتُه { فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ } إن كنت قادراً على مثل مقدوراته تعالى فلم يلتفِتْ عليه السلام إلى إبطال مقالةِ اللعين إيذاناً بأن بطلانها من الجلاءِ والظهورِ بحيث لا يكاد يخفى على أحد وأن التصديَ لإبطالها من قبـيل السعي في تحصيل الحاصل وأتى بمثال لا يجد اللعين فيه مجالاً للتمويه والتلبـيس { فَبُهِتَ ٱلَّذِى كَفَرَ } أي صار مبهوتاً وقرىء على بناء الفاعل على أن الموصول مفعوله أي فغلب إبراهيمُ الكافر وأسكته، وإيراد الكفر في حيز الصلة للإشعار بعلة الحكم والتنصيص على كون المحاجة كفراً { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ } تذيـيلٌ مقرِّر لمضمون ما قبله أي لا يهدي الذين ظلموا أنفسَهم بتعريضها للعذاب المخلد بسبب إعراضِهم عن قبول الهداية إلى مناهج الاستدلالِ أو إلى سبـيل النجاة أو إلى طريق الجنةِ يوم القيامة.