التفاسير

< >
عرض

ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ
٢٨٥
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ آمَنَ لرَّسُولُ } لمّا ذُكر في فاتحة السورة الكريمة أن ما أُنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم الشأنِ هدىً للمتّصفين بما فُصِّل هناك من الصفات الفاضلةِ التي من جملتها الإيمانُ به وبما أنزل قبله من الكتب الإلهيةِ، وأنهم حائزون لأثَرَتي الهدى والفلاح من غير تعيـينٍ لهم بخصوصهم، ولا تصريحٍ بتحقق اتصافِهم بها إذ ليس فيما يُذكر في حيز الصلةِ حُكمٌ بالفعل وعُقّب ذلك ببـيان حال من كَفر به من المجاهرين والمنافقين ثم شَرَح في تضاعيفها من فنون الشرائع والأحكام والمواعظِ والحِكَم وأخبارِ الأمم السالفة وغيرِ ذلك ممَّا تقتضي الحكمةُ شرحَه عُيِّن في خاتمتها المتّصفون بها وحُكم باتصافهم بها على طريق الشهادة لهم من جهته عز وجل بكمال الإيمان وحسنِ الطاعةِ، وذكرُه صلى الله عليه وسلم بطريق الغيبة مع ذكره هناك بطريق الخطاب لما أن حقَّ الشهادة الباقية على مر الدهور ألا يخاطَبَ بها المشهودُ له، ولم يتعرض هٰهنا لبـيان فوزهم بمطالبهم التي من جملتها ما حُكيَ عنهم من الدعوات الآتية إيذاناً بأنه أمرٌ محقق غنيٌّ عن التصريح به لا سيما بعدما نُص عليه فيما سلف، وإيرادُه عليه السلام بعنوان الرسالة المنبئة عن كونه عليه السلام صاحبَ كتابٍ مجيد وشرع جديد ــ تمهيدٌ لما يعقُبه من قوله تعالى: { بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ } ومزيدُ توضيحٍ لاندراجه في الرسل المؤمَنِ بهم عليهم السلام، والمرادُ بما أنزل إليه { مّن رَّبّهِ } إيماناً تفصيلياً متعلّقاً بجميع ما فيه من الشرائع والأحكامِ والقصصِ والمواعظ وأحوالِ الرسل والكتُب، وغير ذلك من حيث إنه منزلٌ منه تعالى، وأما الإيمانُ بحقية أحكامِه وصدقِ أخباره ونحوُ ذلك فمن فروع الإيمان به من الحيثية المذكورة، وفي هذا الإجمال إجلالٌ لمحلِّه عليه الصلاة والسلام وإشعارٌ بأن تعلّقَ إيمانِه بتفاصيلِ ما أنزل إليه وإحاطته بجميع ما انطوى عليه من الظهور بحيث لا حاجة إلى ذكره أصلاً وكذا في التعرض لعنوان الربوبـية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام تشريفٌ له وتنبـيهٌ على أن إنزاله إليه تربـية وتكميلٌ له عليه السلام.

{ وَٱلْمُؤْمِنُونَ } أي الفريقُ المعروفون بهذا الاسم فاللاَّم عهدية لا موصولة لإفضائها إلى خلو الكلام عن الجدوى وهو مبتدأ، وقوله عز وجل: { كُلٌّ } مبتدأ ثانٍ، وقوله تعالى: { آمن } خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأول، والرابطُ بـينهما الضمير الذي ناب منابَه التنوين، وتوحيدُ الضمير في آمن مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المرادَ بـيانُ إيمانِ كل فردِ منهم من غير اعتبار الاجتماعِ كما اعتُبر ذلك في قوله تعالى: { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دٰخِرِينَ } [النمل، الآية 87] وتغيـيرُ سبْكِ النظم الكريمِ عما قبلَه لتأكيد الإشعارِ بما بـين إيمانهِ على السلام المبنيِّ على المشاهدة والعِيان وبـين إيمانِهم الناشىءِ عن الحجة والبرهانِ من التفاوت البـيِّن والاختلاف الجليِّ كأنهما متخالفان من كل وجهٍ حتى في هيئة التركيب الدالِّ عليهما، وما فيه من تكرير الإسناد لما في الحُكم بإيمان كلِّ واحدٍ منهم على الوجه الآتي من نوعِ خفاءٍ مُحوِجٍ إلى التقوية والتأكيد، أي كلُّ واحد منهم آمن { بِٱللَّهِ } وحده من غير شريكٍ له في الألوهية والمعبودية { وَمَلَـئِكَتُهُ } أي من حيث إنهم عبادٌ مُكْرمون له تعالى من شأنهم التوسطُ بـينه تعالى وبـين الرسل بإنزال الكتب وإلقاءِ الوحي، فإن مدارَ الإيمان بهم ليس من خصوصيات ذواتِهم في أنفسهم بل هو من إضافتهم إليه تعالى من الحيثية المذكورة كما يلُوح به الترتيبُ في النظم.

{ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } أي من حيث مجيئُهما من عنده تعالى لإرشاد الخلقِ إلى ما شرَع لهم من الدين بالأوامر والنواهي لكن لا على الإطلاق بل على أن كلَّ واحدٍ من تلك الكُتُب منْزلٌ منه تعالى إلى رسول معيّنٍ من أولئك الرسلِ عليهم الصلاة والسلام حسبما فُصل في قوله تعالى: { قُولُواْ ءامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ وَإِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ... } [البقرة، الآية 136] ولا على أن مناطَ الإيمان خصوصيةُ ذلك الكتاب أو ذلك الرسولِ بل على أن الإيمانَ بالكل مندرِجٌ في الإيمان بالكتاب المُنْزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ومستنِدٌ إليه لِما تُليَ من الآية الكريمة ولا على أن أحكامَ الكتبِ السالفة وشرائعَها باقيةٌ بالكلية ولا على أن الباقيَ منها معتبرٌ بالإضافة إليها بل على أن أحكامَ كلِّ واحد منها كانت حقةً ثابتة إلى ورود كتابٍ آخرَ ناسخٍ له وأن ما لم يُنسَخْ منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتةٌ من حيث إنها من أحكام هذا الكتاب المَصونِ عن النسخ إلى يوم القيامة، وإنما لم يُذكر هٰهنا الإيمانُ باليوم الآخر كما ذكر في قوله تعالى: { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلأخِرِ وَٱلْمَلَـئِكَةِ وَٱلْكِتَـٰبِ وَٱلنَّبِيّينَ } [البقرة، الآية 177] لاندراجه في الإيمان بكتُبه وقرىء وكتابِه على أن المرادَ به القرآنُ أو جنسُ الكتاب كما في قوله تعالى: { { فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ } [البقرة، الآية 4].

والفرقُ بـينه وبـين الجمع أنه شائعٌ في أفراد الجنس والجمعِ في جموعه، ولذلك قيل: الكتابُ أكثرَ من الكتب، وهذا نوعُ تفصيلٍ لما أُجمل في قوله تعالى: { بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ } اقتُصر عليه إيذاناً بكفايته في الإيمان الإجمالي المتحقِّق في كل فردٍ من أفراد المؤمنين من غير نفيٍ لزيادةٍ، ضرورةَ اختلاف طبقاتهم وتفاوتِ إيمانهم بالأمور المذكورة في مراتب التفصيل تفاوتاً فاحشاً فإن الإجمالَ في الحكاية لا يوجب الإجمالَ في المحكيِّ، كيف لا وقد أُجمل في حكاية إيمانه عليه السلام بما أُنزل إليه من ربه مع بداهة كونهِ متعلِّقاً بتفاصيلِ ما فيه من الجلائل والدقائق، ثم إن الأمورَ المذكورةَ حيث كانت من الأمور الغيبـية التي لا يُوقف عليها إلا من جهة العليم الخبـير كان الإيمانُ بها مِصداقاً لما ذُكر في صدر السورة الكريمة من الإيمان بالغيب وأما الإيمان بكتُبه تعالى، فإشارة إلى ما في قوله تعالى: { { يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } [البقرة، الآية 4] هذا هو اللائقُ بشأن التنزيل والحقيقُ بمقداره الجليل، وقد جُوّز أن يكون قوله تعالى: { وَٱلْمُؤْمِنُونَ } [البقرة، الآية 285] معطوفاً على { ٱلرَّسُولُ } [البقرة، الآية 285] فيوقف عليه، والضميرُ الذي عُوّض عنه التنوينُ راجعٌ إلى المعطوفَيْن معاً كأنه قيل: آمن الرسولُ والمؤمنون بما أُنزل إليه من ربه، ثم فُصِّل وقيل: كلُّ واحدٍ من الرسل والمؤمنين آمن بالله الخ، خلا أنه قُدّم المؤمَنُ به على المعطوف اعتناءً بشأنه وإيذاناً بأصالته عليه السلام في الإيمان به، ولا يخفى أنه ــ مع خلوّه عما في الوجه الأول من كمالِ وإجلالِ شأنهِ عليه السلام وتفخيمِ إيمانه ــ مخلٌّ بجزالة النظمِ الكريم لأنه إنْ حُمل كلٌّ من الإيمانين على ما يليق بشأنه عليه الصلاة والسلام من حيث الذاتُ ومن حيث التعلقُ بالتفاصيل استحالَ إسنادُهما إلى غيره عليه الصلاة والسلام وضاع التكريرُ، وإن حُملا على ما يليق بشأن آحادِ الأمةِ كان ذلك حطاً لرتبته العليةِ عليه السلام، وأما حملُهما على ما يليق بكل واحدٍ ممن نُسبا إليه من الآحاد ذاتاً وتعلقاً - بأن يُحمَلا بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم على الإيمان العياني المتعلقِ بجميع التفصيل وبالنسبة إلى آحاد الأمةِ على الإيمان المكتسَب من جهته عليه السلام اللائقِ بحالهم في الإجمال والتفصيل - فاعتسافٌ بـيّن ينبغي تنزيهُ ساحةِ التنزيل عن أمثاله، وقوله تعالى: { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } في حيز النصب بقولٍ مقدرٍ على صيغة الجمع رعايةً لجانب المعنى، منصوبٌ على أنه حال من ضمير آمن، أو مرفوعٌ على أنه خبرٌ آخرُ (لكلٌّ) أي يقولون لا نفرّق بـينهم بأن نؤمنَ ببعض منهم ونكفُرَ بآخَرين بل نؤمنُ بصحة رسالةِ كلِّ واحدٍ منهم. قيّدوا به إيمانَهم تحقيقاً للحق وتخطِئةً لأهل الكتابـين حيث أجمعوا على الكفر بالرسول صلى الله عليه وسلم واستقلت اليهودُ بالكفر بعيسى عليه السلام أيضاً على أن مقصودَهم الأصليَّ إبرازُ إيمانهم بما كفروا به من رسالته عليه السلام لا إظهارُ موافقتهم لهم فيما آمنوا به، وهذا كما ترى صريحٌ في أن القائلين آحادُ المؤمنين خاصة إذ لا يمكن أن يسند إليه عليه السلام أن يقول: لا أفرق بـين أحدٍ من رسله وهو يريد به إظهارَ إيمانه برسالة نفسِه وتصديقَه في دعواها، وعدمُ التعرُّضِ لنفي التفريق بـين الكتُب لاستلزام المذكور إياه وإنما لم يُعكَسْ مع تحقق التلازم من الطرفين لما أن الأصلَ في تفريق المفرِّقين هو الرسلُ، وكفرُهم بالكتب متفرِّع على كفرهم بهم، وقرىء بالياء على إسناد الفعل إلى كل، وقرىء لا يفرِّقون حملاً على المعنى كما في قوله تعالى: { { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دٰخِرِينَ } [النحل، الآية 87] فالجملة نفسُها حال من الضمير المذكور، وقيل: خبرٌ ثان لكلٌّ كما قيل في القول المقدر فلا بد من اعتبار الكلية بعد النفي دون العكس إذ المرادُ شمولُ النفي لا نفيُ الشمول، والكلام في همزة (أحدٍ) وفي دخول (بـين) عليه قد مر تفصيله عند قوله تعالى: { { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ } [البقرة، الآية 136] وفيه من الدلالة صريحاً على تحقق عدم التفريقِ بـين كل فردٍ فرد منهم وبـين مَن عداه كائناً مَنْ كان ما ليس في أن يقال: لا نفرِّق بـين رسله، وإيثارُ إظهارِ الرسلِ على الإضمار الواقعِ مثلُه في قوله تعالى: { وَمَا أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ } [البقرة، الآية: 136] إما للاحتراز عن توهم اندراج الملائكةِ في الحُكم، أو للإشعار بعلة عدمِ التفريقِ، أو للإيماء إلى عنوانه، لأن المعتبرَ عدمُ التفريق من حيث الرسالةُ دون سائرِ الحيثيات الخاصة { وَقَالُواْ } عطفٌ على آمن، وصيغةُ الجمعِ باعتبار جانب المعنى وهو حكايةٌ لامتثالهم بالأوامر إثرَ حكايةِ إيمانِهم { سَمِعْنَا } أي فهمنا ما جاءنا من الحق وتيقنا بصحته { وَأَطَعْنَا } ما فيه من الأوامر والنواهي وقيل سمِعنا: أجبنا دعوتك وأطعنا أمرَك { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } أي اغفِرْ لنا غفرانك أو نسألك غُفرانك ذنوبنا المتقدمة أو ما لا يخلو عنه البشرُ من التقصير في مراعاة حقوقِك، وتقديمُ ذكرِ السمعِ والطاعةِ على طلب الغفران لما أن تقديمَ الوسيلةِ على المسؤول أدعى إلى الإجابة والقبول، والتعرضُ لعنوان الربوبـية مع الإضافة إليهم للمبالغة في التضرُّع والجُؤار.

{ وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } أي الرجوعُ بالموت والبعث لا إلى غيرك، وهو تذيـيلٌ لما قبله مقرِّرٌ للحاجة إلى المغفرة لما أن الرجوعَ للحساب والجزاء.