التفاسير

< >
عرض

قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
٣٣
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ قَالَ } استئناف كما سلف { يَـاءَادَمُ أَنبِئْهُم } أي أعلِمْهم، أُوثرَ على أنبئني كما وقع في أمر الملائكة مع حصول المراد معه أيضاً وهو ظهورُ فضلِ آدمَ عليهم، عليهم السلام، إبانةً لما بـين الأمرين من التفاوت الجليّ وإيذاناً بأن عِلْمَه عليه السلام بها أمرٌ واضحٌ غيرُ محتاجٍ إلى ما يجري مَجرى الامتحان، وأنه عليه السلام حقيقٌ بأن يعلمَها غيرُه وقرىء بقلب الهمزة ياءً وبحذفِها أيضاً والهاء مكسورةٌ فيهما { بِأَسْمَائِهِمْ } التي عجَزوا عن علمها واعترفوا بتقاصُر هممِهم عن بلوغِ مرتبتها { فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم } الفاء فصيحةٌ عاطفةٌ للجملة الشرطية على محذوف يقتضيهِ المقامُ وينسحِبُ عليه الكلام، للإيذان بتقرُّره وغِناه عن الذكر، وللإشعارِ بتحقُّقه في أسرع ما يكون كما في قوله عز وجل: { فَلَمَّا رَءاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } [النمل، الآية 40] بعد قولِه سبحانه: { { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } [النمل، الآية 40] وإظهارُ الأسماءِ في موقع الإضمارِ لإظهار كمالِ العنايةِ بشأنها،والإيذانِ بأنه عليه السلام أنبأهم بها على وجه التفصيلِ دون الإجمالِ، والمعنى فأنبأهم بأسمائهم مفصّلةً وبـيّن لهم أحوالَ كلٍّ منهم وخواصَّه وأحكامَه المتعلقة بالمعاش والمعاد، فعلِموا ذلك لمّا رأَوْا أنه عليه السلام لم يتلعثم في شيء من التفاصيل التي ذكرها مع مساعدة ما بـين الأسماءِ والمسميات من المناسبات والمُشكلات وغيرِ ذلك من القرائن الموجبةِ لصدق مقالاتِه عليه السلام، فلما أنبأهم بذلك { قَالَ } عز وجل تقريراً لما مر من الجواب الإجماليِّ واستحضاراً له { أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضِ } ولكن لا لتقرير نفسِه كما في قوله تعالى: { أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } [طه، الآية 86] ونظائرِه بل لتقرير ما يفيده من تحقق دواعي الخلافةِ في آدمَ عليه السلام لظهور مِصْداقه، وإيرادُ ما لا يعلمون بعنوان الغيبِ مضافاً إلى السموات والأرض للمبالغة في بـيان كمالِ شمولِ علمِه المحيطِ وغايةِ سَعته، مع الإيذان بأن ما ظهر من عجزهم وعلم آدمَ عليه السلام من الأمور المتعلقة بأهل السموات وأهل الأرض، وهذا دليل واضحٌ على أن المراد (بما لا تعلمون) فيما سبق ما أشير إليه هناك كأنه قيل ألم أقل لكم إني أعلم فيه من دواعي الخلافةِ ما لا تعلمونه فيه هو هذا الذي عاينتموه، وقوله تعالى: { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } عطفٌ على جملة (ألم أقل لكم) لا على أعلم، إذ هو غيرُ داخلٍ تحت القول، و(ما) في الموضعين موصولةٌ حذف عائدُها أي أعلم ما تبدونه وما تكتمونه، وتغيـيرُ الأسلوب للإيذان باستمرار كَتْمِهم، قيل: المراد بما يبدون قولُهم أتجعل الخ، وبما يكتمون استبطانُهم أنهم أحِقّاءُ بالخلافة وأنه تعالى لا يخلُق خلقاً أفضل منهم.

رُوي أنه تعالى لما خلق آدمَ عليه السلام رأت الملائكةُ فِطرتَه العجيبةَ وقالوا ليكن ما شاء فلن يخلُقَ ربُنا خلقاً إلا كنا أكرمَ عليه منه وقيل: هو ما أسره إبليسُ في نفسه من الكِبْر وتركِ السجود، فإسنادُ الكِتمان حينئذ إلى الجميع من قبـيل قولهم بنو فلان قتلوا فلاناً والقاتل واحدٌ من بـينهم، قالوا: في الآية الكريمة دلالةٌ على شرف الإنسان ومزية العلمِ وفضلِه على العبادة، وأن ذلك هو المناطُ للخلافة، وأن التعليم يصحُّ إطلاقُه على الله تعالى. وإن لم يصح إطلاقُ المعلِّم عليه لاختصاصه عادة بمن يحترِفُ به، وأن اللغاتِ توقيفيةٌ إذ الأسماءُ تدل على الألفاظ بخصوص أو بعموم، وتعليمُها ظاهرٌ في إلقائها على المتعلم مبـيناً له معانيَها، وذلك يستدعي سابقةَ وضعٍ، وما هو إلا من الله تعالى وأن مفهوم الحِكمة زائدٌ على مفهوم العلم وإلا لزم التكرارُ وأن علومَ الملائكة وكمالاتِهم تقبل الزيادة، والحكماءُ منعوا ذلك في الطبقة العليا منهم وحملوا على ذلك قولَه تعالى: { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات، الآية 164] وأن آدمَ أفضلُ من هؤلاء الملائكة لأنه عليه السلام أعلمُ منهم وأنه تعالى يعلمُ الأشياءَ قبل حدوثِها.