التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
٧٦
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَإِذَا لَقُواْ } جملةٌ مستأنفة سيقتْ إثرَ بـيانِ ما صدر عن أشباههم لبـيان ما صدرَ عنهم بالذات من الشنائع المُؤْيسةِ عن إيمانهم من نفاق بعضٍ وعتابِ آخَرين عليهم، أو معطوفةٌ على ما سبق من الجملة الحالية، والضميرُ لليهود لما ستقف على سره لا لمنافقيهم خاصةً كما قيل تحرّياً لاتحاد الفاعل في فعلي الشرط والجزاءِ حقيقةً { ٱلَّذِينَ آمنواْ } من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم { قَالُواْ } أي اللاقون لكن لا بطريق تصدّي الكلِّ للقول حقيقةً بل بمباشرة منافقيهم وسكوتِ الباقين، كما يقال: بنو فلان قتلوا فلاناً والقاتلُ واحد منهم، وهذا أدخلُ في تقبـيح حال الساكنين أولاً العاتبـين ثانياً لما فيه من الدلالة على نفاقهم واختلافِ أحوالهم وتناقضِ آرائهم من إسناد القول إلى المباشرين خاصةً بتقدير المضافِ أي قال منافقوهم { آمنا } لم يقتصروا على ذلك بل عللوه بأنهم وجدوا نعتَ النبـيِّ صلى الله عليه وسلم في التوراة وعلموا أنه النبـيُّ المبشَّر به، وإنما لم يصرَّحْ به تعويلاً على شهادة التوبـيخِ الآتي: { وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ } أي بعض المذكورين وهم الساكتون منهم أي إذا فرَغوا من الاشتغال بالمؤمنين متوجِّهين ومنضمَّين { إِلَىٰ بَعْضِ } آخرَ منهم وهم منافقوهم بحيث لم يبقَ معهم غيرُهم، وهذا نصٌّ على اشتراك الساكتين في لقاء المؤمنين كما أشير إليه آنفاً إذِ الخلوُّ إنما يكون بعد الاشتغال، ولأن عتابَهم معلقٌ بمحض الخلوِّ، ولولا أنهم حاضرون عند المقاولة لوجب أن يُجعلَ سماعُهم لها من تمام الشرط، ولأن فيه زيادةَ تشنيعٍ لهم على ما أتَوْا من السكوت ثم العتاب { قَالُواْ } أي الساكتون موبّخين لمنافقيهم على ما صنعوا { أَتُحَدّثُونَهُم } يعنون المؤمنين { بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } (ما) موصولةٌ والعائدُ محذوفٌ أي بـيَّنه لكم خاصةً في التوراة من نعْت النبـي صلى الله عليه وسلم والتعبـيرِ عنه بالفتْح للإيذان بأنه سرٌّ مكنونٌ وباب مغلَقٌ لا يقف عليه أحدٌ. وتجويزُ كونِ هذا التوبـيخ من جهة المنافقين لأعقابهم ــ إراءةً للتصلُّب في دينهم كما ذهب إليه عصابةٌ ــ مما لا يليق بشأن التنزيل الجليلِ، واللامُ في قوله عز وجل: { لِيُحَاجُّوكُم بِهِ } متعلقةٌ بالتحديث دون الفتح، والمرادُ تأكيدُ النكير وتشديدُ التوبـيخ، فإن التحديثَ بذلك وإن كان مُنْكراً في نفسه، لكن التحديثَ به لأجل هذا الغَرَض مما لا يكاد يصدُرُ عن العاقل أي أتحدِّثونهم بذلك ليحتجّوا عليكم به فيُبَكِّتوكم؟ والمحدّثون به وإن لم يحوموا حولَ ذلك الغرضِ لكن فعلَهم ذلك لما كان مستتبِعاً له ألبتة جُعلوا فاعلين للغرض المذكور إظهاراً لكمال سخافةِ عقولِهم وركاكة آرائهم.

{ عِندَ رَبّكُمْ } أي في حُكمه وكتابه كما يقال: هو عند الله كذا أي في كتابه وشرعه، وقيل: عند ربكم يومَ القيامة، ورُدَّ عليه بأن الإخفاءَ لا يدفعه إذ هم عالمون بأنهم محجوجون يومئذ حدَّثوا به أو لم يحدثوا، والاعتذارُ بأنه إلزامَ المؤمنين إياهم وتبكيتَهم بأن يقولوا لهم: ألم تحدِّثونا بما في كتابكم في الدنيا من حقّية دينِنا وصدقِ نبـيِّنا أفحشُ، فيجوز أن يكون المحذورُ عندهم هذا الإلزامَ بإرجاع الضمير في (به) إلى التحديث دون المحدَّث به، ولا ريب في أنه مدفوعٌ بالإخفاء لا تساعده الآيةُ الكريمة الآتيةُ كما ستقف عليه بإذن الله عز وجل { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } من تمام التوبـيخ والعتابِ، والفاءُ للعطف على مقدَّر ينسحبُ عليه الكلام أي ألا تلاحظون فلا تعقلون هذا الخطأَ الفاحشَ أو شيئاً من الأشياء التي من جملتها هذا؟ فالمنْكرُ عدمُ التعقُّل ابتداءً. أو أتفعلون ذلك فلا تعقلون بُطلانَه مع وضوحه حتى تحتاجوا إلى التنبـيه عليه؟ فالمنكرُ حينئذ عدمُ التعقل بعد الفعل، هذا وأما ما قيل من أنه خطابٌ من جهة الله سبحانه للمؤمنين متصلٌ بقوله تعالى: { أَفَتَطْمَعُونَ } والمعنى أفلا تعقلون حالَهم وأن لا مطْمَعَ لكم في إيمانهم فيأباه.