التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِٱلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
٨٥
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ ثُمَّ أَنتُمْ هَـٰؤُلاءِ } خطابٌ خاصٌّ بالحاضرين فيه توبـيخ شديدٌ واستبعادٌ قويٌّ لما ارتكبوه بعد ما كان من الميثاق والإقرارِ به والشهادةِ عليه، وأنتم مبتدأ هؤلاءِ خبرُه، ومَناطُ الإفادةِ اختلافُ الصفاتِ المنزَّلةِ منزلةَ اختلافِ الذات، والمعنى أنتم بعد ذلك هؤلاءِ المشاهِدون الناقضون المتناقضون حسبما تُعربُ عنه الجملُ الآتية، فإن قوله عز وجل: { تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ } الخ بـيانٌ له وتفصيلٌ لأحوالهم المُنْكَرة المندرجةِ تحت الإشارةِ ضمناً كأنهم قالوا: كيف نحن؟ فقيل: تقتُلون أنفسَكم أي الجارين مَجرى أنفسِكم كما أشير إليه، وقرىء تُقتّلون بالتشديد للتكثير { وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم } الضمير إما للمخاطبـين والمضافُ محذوفٌ أي من أنفسكم، وإما للمقتولين والخطابُ باعتبار أنهم جُعلوا أنفُسَ المخاطَبـين، وإلا فلا يتحقق التكافُؤُ بـين المقتولين والمخرجين في ذلك العنوان الذي عليه يدور فلَكُ المبالغة في تأكيد الميثاقِ حسبما نُصَّ عليه، ولا يظهر كمالُ قباحةِ جناياتِهم في نقضه { مِن دِيَـٰرِهِم } الضمير للفريق، وإيثارُ الغَيْبة مع جواز الخِطاب أيضاً - بناءً على اعتبار العنوان المذكورِ كما مر في الميثاق - للاحتراز عن توهّم كونِ المرادِ إخراجَهم من ديار المخاطَبـين من حيث هي ديارُهم لا من حيث هي ديارُ المخرِجين، وقيل: هؤلاءِ موصولٌ والجملتان في حيّز الصلةِ، والمجموعُ هو الخبرُ لأنتم { تَظَـٰهَرُونَ علَيْهِم } بحذف إحدى التاءين، وقرىء بإثباتهما وبالإدغام وتظّهرون بطرح إحدى التاءين من تتظهرون ومعنى الكل تتعاونون وهي حالٌ من فاعل تَخرجون أو من مفعوله أو منهما جميعاً، مبـينةٌ لكيفية الإخراج دافعةٌ لتوهم اختصاصِ الحُرمة بالإخراج بطريق الأصالةِ والاستقلالِ، دون المظاهرةِ والمعاونة { بِٱلإثْمِ } متعلقٌ بتظاهرون حال من فاعله أي متلبسين بالإثم وهو الفعلُ الذي يستحق فاعلُه الذمَّ واللومَ، وقيل: وهو ما ينفِرُ عنه النفسُ ولا يطمئن إليه القلب{ وَٱلْعُدْوَانِ } وهو التجاوزُ في الظلم { وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَـٰرَىٰ } جمعُ أسير وهو من يؤخذ قهراً، فعيل بمعنى مفعول من الأسر أي الشدّ أو جمعُ أَسْرىٰ وهو جمع أسير كجرحىٰ وجريح، وقد قرىء أسْرى، ومحله النصبُ على الحالية { تُفَـٰدُوهُمْ } أي تخرجوهم من الأسر، بإعطاء الفداء وقرىء تَفْدوهم.

قال السدي إن الله تعالى أخذ على بني إسرائيلَ في التوراة الميثاقَ أن لا يقتُلَ بعضُهم بعضاً ولا يُخرجَ بعضُهم بعضاً من ديارهم وأيُّما عبدٍ أو أمةٍ وجدتموه من بني إسرائيلَ فاشترُوه وأعتِقوه، وكانت قريظةُ حلفاءَ الأوسِ والنضيرُ حلفاءَ الخزرج حتى كان بـينهما ما كان من العداوة والشَنَآن، فكان كلُّ فريقٍ يقاتل مع حُلفائه فإذا غَلَبوا خرَّبوا ديارَهم وأخرجوهم منها، ثم إذا أُسر رجل من الفريقين جمعوا له مالاً فيَفُدونه، فعيَّرتهم العربُ وقالت: كيف تقاتلونهم ثم تَفْدونهم؟ فيقولون: أُمرنا أن نفديَهم وحُرِّم علينا قتالُهم، ولكن نستحْيـي أن نُذِلَّ حلفاءَنا، فذمهم الله تعالى على المناقضة { وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } ضميرُ الشأن وقع مبتدأ ومحرمٌ فيه ضمير قائم مقامَ الفاعلِ وقع خبراً عن إخراجهم والجملة خبرٌ لضمير الشأن، وقيل: محرَّمٌ خبرٌ لضمير الشأن وإخراجُهم مرفوع على أنه مفعولُ ما لم يُسمَّ فاعلُه، وقيل: الضميرُ مُبهم يفسّره إخراجهم، أو راجعٌ إلى ما يدل عليه تُخرجون من المصدر، وإخراجُهم تأكيدٌ أو بـيانٌ، والجملةُ حالٌ من الضمير في تخرجون أو من فريقاً أو منهما كما مر بعد اعتبار القيد بالحال السابقة، وتخصيصُ بـيان الحرمةِ ههنا بالإخراج مع كونه قريناً للقتل عند أخذ الميثاقِ لكونه مِظنّةً للمساهلة في أمره بسبب قِلة خَطَره بالنسبة إلى القتل، ولأن مساقَ الكلام لذمّهم وتوبـيخِهم على جناياتهم وتناقض أفعالهم معاً، وذلك مختصٌّ بصورة الإخراجِ حيث لم يُنقلْ عنهم تدارُك القتلى بشيءٍ من دِيَةِ أو قِصاصٍ - هو السر في تخصيص التظاهرِ به فيما سبق، وأما تأخيرُه من الشرطية المعترضةِ مع أن حقه التقديمُ كما ذكره الواحدي فلأن نظْمَ أفاعيلِهم المتناقضةِ في سَمْطٍ واحدٍ من الذكر أدخَلُ في إظهار بطلانها { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَـٰبِ } أي التوراة التي أُخذ فيها الميثاقُ المذكور، والهمزةُ للإنكار التوبـيخيّ والفاءُ للعطف على مقدّر يستدعيه المقامُ أي أتفعلون ذلك فتؤمنون ببعض الكتاب وهو المفاداة، { وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } وهو حرمةُ القتالِ والإخراج مع أن مِن قضية الإيمان ببعضه الإيمانُ بالباقي لكون الكلِّ من عند الله تعالى داخلاً في الميثاق، فمناطُ التوبـيخ كفرُهم بالبعض مع إيمانهم بالبعض حسبما يفيده ترتيبُ النظمِ الكريم، فإن التقديمَ يستدعي في المقام الخطابـي أصالةَ المقدَّم وتقدُّمَه بوجهٍ من الوجوه حتماً، وإذ ليس ذلك ههنا باعتبار الإنكارِ والتوبـيخ عليه وهو باعتبار الوقوعِ قطعاً لا إيمانُهم بالبعض مع كفرهم بالبعض كما هو المفهومُ لو قيل: أفتكفرون ببعض الكتاب وتؤمنون ببعض؟ ولا مجردُ كفرِهم بالبعض، وإيمانِهم بالبعض كما يفيده أن يقال: أفتَجْمعون بـين الإيمان ببعض الكتابِ والكفرِ ببعضٍ أو بالعكس!

{ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ } ما نافية و(مَنْ) إن جُعلت موصولةً فلا محلَّ ليفعلُ من الإعراب وإن جعلت موصوفةً فمحله الجر على أنه صفتُها، وذلك إشارةٌ إلى الكفر ببعض الكتاب مع الإيمان ببعضٍ أو إلى ما فعلوا من القتل والإجلاء مع مُفاداةِ الأُسارىٰ { مّنكُمْ } حالٌ من فاعل يفعل { إِلاَّ خِزْىٌ } استثناءٌ مُفرَّغٌ وقع خبراً للمبتدأ، والخزيُ الذلُّ والهوانُ مع الفضيحة، والتنكيرُ للتفخيم، وهو قتلُ بني قُرَيظةَ وإجلاءُ بني النَّضير إلى أذْرِعاتَ وأريحاءَ من الشام وقيل: الجزية { فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } في حيز الرفع على أنه صفةُ خزيٌ أي خزيٌ كائن في الحياة الدنيا أو في حيز النصب على أنه ظرفُ الخزي، ولعل بـيانَ جزائِهم بطريق القصر على ما ذكر لقطع أطماعِهم الفارغةِ من ثمرات إيمانهم ببعض الكتاب وإظهارِ أنه لا أثرَ له أصلاً مع الكفر ببعض { وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يُرَدُّونَ } وقرىء بالتاء، أوثرَ صيغةُ الجمع نظراً إلى المعنى (مَنْ) بعد ما أوثِرَ الإفرادُ نظراً إلى لفظها لما أن الردَّ إنما يكون بالاجتماع { إِلَىٰ أَشَدّ ٱلّعَذَابِ } لما أن معصيتَهم أشدُّ المعاصي وقيل: أشدُّ العذاب بالنسبة إلى ما لهم في الدنيا من الخزي والصَّغار، وإنما غُيّر سبكُ النظمِ الكريم حيث لم يقُلْ مثلاً وأشدُّ العذاب يوم القيامة للإيذان بكمال التنافي بـين جزاءَي النشأتين وتقديم يوم القيامة على ذكر ما يقع فيه لتهويل الخطبِ وتفظيعِ الحال من أول الأمر، { وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } من القبائح التي من جملتها هذا المنكَرُ. وقرىء بالياء على نهج (يُردّون) وهو تأكيد للوعيد.