التفاسير

< >
عرض

أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
٨٦
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ
٨٧
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ أُوْلَـٰئِكَ } الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبـيحةِ وهو مبتدأ خبرُه قولُه تعالى: { ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ } أي آثروا { الحياة الدنيا } واستبدلوها { بِٱلآخِرَةِ } وأعرضوا عنها مع تمكنهم من تحصيلها فإن ما ذُكر من الكفر ببعض أحكامِ الكتاب إنما كان لمراعاة جانبِ حلفائِهم لما يعود إليهم منهم من بعض المنافعِ الدينيةِ والدنيوية { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ } دنيوياً كان أو أُخروياً { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } يدفعه عنهم شفاعةً أو جبراً، والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها عطفَ الاسمية على الفعلية، أو ينصرون مفسِّرٌ لمحذوف قبل الضمير، فيكونُ من عطف الفعلية على مثلها { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَـٰبَ } شروعٌ في بـيانِ بعضٍ آخرَ من جناياتهم، وتصديرُه بالجملة القَسَمية لإظهار كمالِ الاعتناءِ به، والمرادُ بالكتاب التوراة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن التوراة لما نزلت جُملةً واحدة أمر الله تعالى موسى عليه السلام بحملها فلم يُطق ذلك فبعث الله بكل حرفٍ منها مَلَكاً فلم يطيقوا حملَها فخففها الله تعالى لموسى فحملها { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ } يقال: قفّاه به إذا أتبعه إياه، أي أرسلناهم على أَثَرِه كقوله تعالى: { { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } [المؤمنون، الآية 44] وهم يوشَعُ وأشمَويلُ وشمعونُ وداودُ وسليمانُ وشَعْيا وأرميا وعُزيرٌ وحزْقيل وإلياسُ واليسعُ ويونسُ وزكريا ويحيـى وغيرُهم عليهم الصلاة والسلام { وءاتَيْنَا عيسى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَـٰتِ } المعجزاتِ الواضحاتِ من إحياء الموتى وإبراءِ الأكمَهِ والأبرصِ والإخبارِ بالمغيّبات، أو الإنجيلَ وعيسى بالسريانية إيشوُعُ ومعناه المبارك ومريم بمعنى الخادم وهو بالعبرية من النساء كالزير من الرجال وبه فُسر قولُ رؤبة: [الرجز]

قلتُ لزيرٍ لم تصِلْه مَرْيمُهضليلِ أهواءِ الصِّبا تندّمُهْ

ووزنه مِفْعل إذ لم يثبت فعيل { وَأَيَّدْنَـٰهُ } وقرىء وآيدناه { بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } بضم الدال وقرىء بسكونها أي بالروح المقدسة، وهي روحُ عيسى عليه السلام كقولك: حاتمُ الجود ورجلُ صدقٍ وإنما وُصِفت بالقدْس لكرامته، أو لأنه عليه السلام لم تضُمَّه الأصلابُ ولا أرحامُ الطوامِث، وقيل: بجبريلَ عليه السلام وقيل: بالإنجيل كما قيل: في القرآن (رُوحاً من أمرنا) وقيل: باسم الله الأعظم الذي يُحيـي الموتى بذكره، وتخصيصُه من بـين الرسل عليهم السلام بالذكر ووصفُه بما ذكر من إيتاء البـينات والتأيـيدِ بروح القدسِ لما أن بِعْثتَهم كانت لتنفيذ أحكامِ التوراة وتقريرِها، وأما عيسى عليه السلام فقد نُسخ بشرعه كثيرٌ من أحكامها ولحسم مادةِ اعتقادِهم الباطلِ في حقه عليه السلام ببـيان حقّيتِه وإظهارِ كمالِ قُبح ما فعلوا به عليه السلام { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ } من أولئك الرسل { بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم } من الحق الذي لا محيدَ عنه أي لا تحبُّه، من هِويَ كفرح إذا أحب، والتعبـيرُ عنه بذلك للإيذان بأن مدارَ الردِّ والقبولِ عندهم هو المخالفةُ لأهواء أنفسِهم والموافقةُ لها لا شيءٍ آخرَ، وتوسيطُ الهمزة بـين الفاء وما تعلّقت به من الأفعال السابقةِ لتوبـيخهم على تعقيبهم ذلك بهذا، أو للتعجب من شأنهم، ويجوز كونُ الفاء للعطف على مقدر يناسب المقام، أي ألم تطيعوهم فكلما جاءكم رسولٌ منهم بما لا تهوىٰ أنفسكم { ٱسْتَكْبَرْتُمْ } عن الاتباع له والإيمانِ بما جاء به من عند الله تعالى { فَفَرِيقًا } منهم { كَذَّبْتُمْ } من غير أن تتعرضوا لهم بشيءٍ آخرَ من المضارِّ، والفاءُ للسببـية أو للتعقيب { وَفَرِيقًا } آخرَ منهم { تَقْتُلُونَ } غيرَ مكتفين بتكذيبهم كزكريا ويحيـى عليهما السلام، وتقديمُ (فريقاً) في الموضعين للاهتمام وتشويق السامعِ إلى ما فعلوا بهم لا للقصر، وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ في القتل لاستحضار صورتِه الهائلةِ، أو للإيماء إلى أنهم بعْدُ على تلك النية، حيث همُّوا بما لم ينالوه من جهته عليه السلام وسحَروه وسمُّوا له الشاةَ حتى قال صلى الله عليه وسلم: "ما زَالتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تعاودني فهذا أوَانُ قَطَعَتْ أبهري" «