التفاسير

< >
عرض

يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
٩
-البقرة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءامَنُوا } بـيانٌ ليقولُ وتوضيحٌ لما هو غرضُهم مما يقولون، أو استئنافٌ وقع جواباً عن سؤال ينساق إليه الذهن، كأنه قيل: ما لهم يقولون ذلك وهم غيرُ مؤمنين، فقيل: يخادعون الله الخ، أي يخدعون، وقد قرىء كذلك، وإيثارُ صيغة المفاعلةِ لإفادة المبالغةِ في الكيفية، فإن الفعل متى غولب فيه بولغ فيه قطعاً، أو في الكمية، كما في الممارسة والمزاولة، فإنهم كانوا مداومين على الخَدْع، والخِدْعُ أن يوهم صاحبَه خلاف ما يريد به من المكروه ليوقعَه فيه من حيث لا يحتسب، أو يوهمَه المساعدةَ على ما يريد هو به ليغترّ بذلك فينجُوَ منه بسهولة، من قولهم ضبٌّ خادع وخُدَع وهو الذي إذا أمرّ الحارشُ يده على باب جُحره يوهمه الإقبالَ عليه فيخرج من بابه الآخر، وكلا المعنيـين مناسبٌ للمقام، فإنهم كانوا يريدون بما صنعوا أن يطّلعوا على أسرار المؤمنين فيذيعوها إلى المنابذين، وأن يدفعوا عن أنفسهم ما يصيب سائرَ الكفرة.

وأياً ما كان فنسبتُه إلى الله سبحانه إما على طريق الاستعارة والتمثيل، لإفادة كمال شناعةِ جنايتهم أي يعامِلون معاملة الخادعين، وإما على طريقة المجاز العقلي، بأن يُنسب إليه تعالى ما حقه أن يُنسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إبانةً لمكانته عنده تعالى، كما ينبىء عنه قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [الفتح، الآية 10] وقوله تعالى: { { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [النساء، الآية 80] مع إفادة كمال الشناعةِ كما مر، وإما لمجرد التوطئةِ والتمهيد لما بعده من نِسبته إلى الذين آمنوا، والإيذانِ بقوةِ اختصاصِهم به تعالى كما في قوله تعالى: { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } ،[الأحزاب، الآية 57] وقوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [الأحزاب، الآية 57] وإبقاءُ صيغة المخادعةِ على معناها الحقيقي بناءً على زعمهم الفاسد، وترجمةٌ عن اعتقادهم الباطل، كأنه قيل: يزعمون أنهم يخدعون الله والله يخدعهم، أو على جعلها استعارة تَبَعِيّة، أو تمثيلاً لما أن صورةَ صُنعِهم مع الله تعالى والمؤمنين وصنعِه تعالى معهم بإجراء أحكامِ الإسلام عليهم، وهم عنده أخبثُ الكفرة، وأهلُ الدَّرْك الأسفلِ من النار استدراجاً لهم، وامتثالُ الرسولِ عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بأمر الله تعالى في ذلك مجازاةٌ لهم بمثل صنيعهم صورةَ صنيعِ المتخادعين كما قيل، مما لا يرتضيه الذوق السليم.

أما الأولُ فلأن المنافقين لو اعتقدوا أن الله تعالى يخدعُهم بمقابلة خَدْعِهم له لم يُتصَّور منهم التصدّي للخدْع، وأما الثاني فلأن مقتضىٰ المقام إيرادُ حالهم خاصةً وتصويرُها بما يليق بها من الصورة المستهجَنة، وبـيانُ أن غائلَتها آيلةٌ إليهم من حيث لا يحتسبون، كما يُعرب عنه قوله عز وعلا: { وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ } فالتعرضُ لحال الجانب الآخر مما يُخِل بتوفية المقامِ حقَّه، وهو حالٌ من ضمير (يخادعون)، أي يفعلون والحالُ أنهم ما يُضرون بذلك إلا أنفسَهم، فإن دائرةَ فعلِهم مقصورةٌ عليهم، أو ما يخدعون حقيقةً إلا أنفسَهم، حيث يُغرونها بالأكاذيب فيُلْقُونها في مهاوي الردىٰ، وقرىء (وما يخادعون) والمعنى هو المعنى، ومن حافظ على الصيغة فيما قبلُ قال: وما يعامِلون تلك المعاملةَ الشبـيهةَ بمعاملة المخادِعين إلا أنفسَهم لأن ضررَها لا يحيق إلا بهم، أو ما يخادعون حقيقة إلا أنفسَهم حيث يُمنّوُنها الأباطيل، وهي أيضاً تغرُهم وتمنّيهم الأمانيَّ الفارغةَ، وقرىء (وما يُخَادِّعون) من التخديع (وما يخدعون) أي يختدعون، ويُخدَعون ويُخادَعون على البناء للمفعول، ونصبُ (أنفسَهم) بنزع الخافض، والنفسُ ذاتُ الشيء وحقيقتُه وقد يقال للروح لأن نفس الحيِّ به، وللقلب أيضاً لأنه محلُ الروح. أو مُتعلَّقُه، وللدم أيضاً لأن قِوامَها به، وللماء أيضاً لشدة حاجتها إليه والمراد هنا هو المعنى الأول لأن المقصود بـيانُ أن ضرر مخادعتهم راجعٌ إليهم لا يتخطاهم إلى غيرهم.

وقوله تعالى: { وَمَا يَشْعُرُونَ } حال من ضمير ما يخدعون، أي يقتصرون على خِدْع أنفسِهم والحالُ أنهم ما يشعرون أي ما يُحسّون بذلك لتماديهم في الغَواية، وحذفُ المفعولِ إما لظهوره أو لعمومه، أي ما يشعرون بشيء أصلاً، جُعل لُحوقُ وبالِ ما صنعوا بهم في الظهور بمنزلة الأمر المحسوسِ الذي لا يخفىٰ إلا على مَؤوفِ الحواس مختلِّ المشاعر.