التفاسير

< >
عرض

قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ
٦٦
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ
٦٧
قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلأَعْلَىٰ
٦٨
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوۤاْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ
٦٩
فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوۤاْ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ
٧٠
-طه

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ قَالَ } استئنافٌ كما سلف ناشىءٌ من حكاية تخيـيرِ السحرةِ إياه عليه الصلاة والسلام، كأنه قيل: فماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ فقيل: قال: { بَلْ أَلْقُواْ } أنتم أولاً مقابلةً للأدب بأحسنَ مِنْ أدبهم حيث بتّ القولَ بإلقائهم أولاً، وإظهاراً لعدم المبالاةِ بسحرهم ومساعدةً لما أوهموا من الميل إلى البدء وليبُرِزوا ما معهم ويستفرغوا أقصى جُهدِهم ويستنفدوا قُصارى وُسعِهم، ثم يظهر الله عز وجل سلطانَه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه لمّا علم أن ما سيظهر بـيده سيلقَف ما يصنعون من مكايد السحر.

{ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ } الفاءُ فصيحة معربة عن مسارعتهم إلى الإلقاء كما في قوله تعالى: { { أَنِ ٱضْرِب بّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ } [الشعراء: 63] أي فألقَوا فإذا حبالُهم وهي للمفاجأة والتحقيقُ أنها أيضاً ظرفيةٌ تستدعي متعلَّقاً ينصِبها وجملةً تضاف إليها، ولكنها خُصت بكون متعلَّقِها فعلَ المفاجأة والجملةُ ابتدائيةٌ، والمعنى فألقَوا ففاجأ موسى عليه الصلاة والسلام وقت أن يُخيَّل إليه سعيُ حبالِهم وعِصِيِّهم من سحرهم وذلك أنهم كانوا لطّخوها بالزئبق فلما ضربت عليها الشمسُ اضطربت واهتزت فخُيل إليه أنها تتحرك، وقرىء تُخيِّل بالتاء على إسناده إلى ضمير الحبال والعِصِيّ وإبدالِ (أنها تسعى) منه بدلَ اشتمالٍ، وقرىء يُخيِّل بإسناده إليه تعالى، وقرىء تَخَيَّل بحذف إحدى التاءين من تتخيل { فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ } أي أضمر فيها بعضَ خوفٍ من مفاجأته بمقتضى البشريةِ المجبولةِ على النفْرة من الحيّات والاحترازِ من ضررها المعتاد من اللسْع ونحوِه، وقيل: من أن يخالج الناسَ شكٌّ فلا يتبعوه وليس بذاك كما ستعرفه، وتأخيرُ الفاعل لمراعاة الفواصل.

{ قُلْنَا لاَ تَخَفْ } أي ما توهمتَ { إِنَّكَ أَنتَ ٱلأَعْلَىٰ } تعليلٌ لما يوجبه النهيُ من الانتهاء عن الخوف وتقريرٌ لغلبته على أبلغ وجهٍ وآكَدِه كما يُعرب عنه الاستئنافُ، وحرفُ التحقيق وتكريرُ الضمير وتعريفُ الخبر ولفظُ العلوّ المنبىءِ على الغلَبة الظاهرة وصيغةُ التفضيل.

{ وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ } أي عصاك كما وقع في سورة الأعراف، وإنما أُوثر الإبهامُ تهويلاً لأمرها وتفخيماً لشأنها وإيذاناً بأنها ليست من جنس العِصِيِّ المعهودة المستتبعةِ للآثار المعتادة، بل خارجةٌ عن حدود سائرِ أفراد الجنسِ مبهمةُ الكُنْهِ مستتبِعةٌ لآثار غريبةٍ. وعدمُ مراعاة هذه النُّكتةِ عند حكايةِ الأمرِ في موضع آخرَ لا يستدعي عدمَ مراعاتها عند وقوع المحكيّ. هذا وحملُ الإبهامِ على التحقير ـ بأن يراد لا تُبالِ بكثرة حبالِهم وعصيِّهم وألقِ العُوَيدَ الذي في يدك فإنه بقدرة الله تعالى يلقَفها مع وَحدته وكثرتها وصِغره وعِظَمها ـ يأباه ظهورُ حالها فيما مر مرتين، على أن ذلك المعنى إنما يليق بما لو فعلتْ العصا ما فعلتْ وهي على هيئتها الأصليةِ وقد كان منها ما كان وقوله تعالى: { تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ } بالجزم جواباً للأمر من لقِفه إذا ابتلعه والتقمه بسرعة، والتأنيثُ لكون (ما) عبارةً عن العصا أي تبتلع ما صنعوه من الحبال والعِصِيّ التي خُيّل إليك سعيُها وخِفّتُها، والتعبـيرُ عنها بما صنعوا للتحقير والإيذانِ بالتمويه والتزوير، وقرىء تَلَقّف بتشديد القاف وإسقاطِ إحدى التاءين من تتلقف، وقرىء بالرفع على الحال أو الاستئنافِ والجملةُ الأمرية معطوفةٌ على النهي متمّمةٌ بما في حيزها لتعليل موجبِه ببـيان كيفيةِ غلبتِه عليه الصلاة والسلام وعلوِّه، فإن ابتلاعَ عصاه لأباطيلهم التي منها أوجسَ في نفسه ما أوجس مما يقلَع مادّته بالكلية، وهذا كما ترى صريحٌ في أن خوفَه عليه الصلاة والسلام لم يكن مما ذكر من مخالجة الشكِّ للناس وعدمِ اتّباعِهم له عليه الصلاة السلام وإلا لعُلّل بما يُزيله من الوعد بما يوجب إيمانَهم واتباعَهم له عليه الصلاة والسلام، وقوله تعالى: { إِنَّ مَا صَنَعُواْ } الخ، تعليلٌ لقوله تعالى: { تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ } وما إما موصولةٌ أو موصوفةٌ أي إن الذي صنعوه أو إن شيئاً صنعوه { كَيْدُ سَاحِرٍ } بالرفع على أنه خبرٌ لأن أن كيدُ جنسِ الساحر، وتنكيرُه للتوسل به إلى تنكير ما أضيف إليه للتحقير، وقرىء بالنصب على أنه مفعولُ صنعوا و(ما) كافةٌ، وقرىء كيدُ سحرٍ على أن الإضافةَ للبـيان كما في علمُ فقةٍ أو على معنى ذي سحر أو على تسمية الساحر سحراً مبالغةً وقوله تعالى: { وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّـٰحِرُ } أي هذا الجنسُ { حَيْثُ أَتَىٰ } أي حيث كان وأين أقبل، من تمام التعليل، وعدمُ التعرض لشأن العصا وكونِها معجزةً إلٰهيةً مع ما في ذلك من تقوية التعليلِ للإيذان بظهور أمرِها، والفاء في قوله تعالى:

{ فَأُلْقِىَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّداً } كما سلف فصيحةٌ معربةٌ عن محذوفَين ينساق إليهما النظمُ الكريم غنيّـين عن التصريح بهما لعدم احتمال تردّدِ موسى عليه السلام في الامتثال بالأمر واستحالةِ عدمِ وقوعِ اللقْف الموعود، أي فألقاه عليه السلام فوقع ما وقع من اللقف فألقى السحرةُ سجّداً لما تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر وإنما هي آيةٌ من آيات الله عز وجل. روي أن رئيسَهم قال: كنا نغلِب الناسَ وكانت الآلاتُ تبقى علينا، فلو كان هذا سحراً فأين ما ألقَيناه من الآلاتِ؟ فاستَدلّ بتغير أحوال الأجسامِ على الصانع القادرِ العالِم، وبظهور ذلك على يد موسى عليه الصلاة والسلام على صحة رسالتِه لا جرم، ألقاهم ما شاهدوه على وجوههم وتابوا وآمنوا وأتَوا بما هو غايةُ الخضوعِ، قيل: لم يرفعوا رؤوسَهم حتى رأَوا الجنةَ والنارَ والثوابَ والعقاب، وعن عِكرمة لما خرّوا سجداً أراهم الله تعالى في سجودهم منازلَهم في الجنة ولا ينافيه قولهم: { { إِنَّا آمَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَـٰيَـٰنَا } [طه: 73] الخ، لأن كونَ تلك المنازلِ منازلَهم باعتبار صدورِ هذا القول عنهم { قَالُواْ } استئناف كما مر غيرَ مرة { آمَنَّا بِرَبّ هَـٰرُونَ وَمُوسَىٰ } تأخيرُ موسى عند حكاية كلامِهم لرعاية الفواصل وقد جُوّز أن يكون ترتيبُ كلامهم أيضاً هكذا، إما لِكبَر سنَّ هارون عليه الصلاة والسلام وإما للمبالغة في الاحتراز عن التوهم الباطلِ من جهة فرعونَ وقومِه، حيث كان فرعونُ ربّىٰ موسى عليه الصلاة والسلام في صِغَره فلو قدّموا موسى عليه الصلاة والسلام لربما توهم اللعينُ وقومُه من أول الأمر أن مرادَهم فرعونُ.