التفاسير

< >
عرض

قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىٰ
٧١
قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلَّذِي فَطَرَنَا فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَآ
٧٢
-طه

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ قَالَ } أي فرعونُ للسحرة: { ءَامَنْتُم لَهُ } أي لموسى عليه الصلاة والسلام، واللامُ لتضمين الفعلِ معنى الاتباعِ، وقرىء على الاستفهام التوبـيخي { قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ } أي من غير أن آذنَ لكم في الإيمان له كما في قوله تعالى: { { لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـٰتُ رَبّى } [الكهف: 109] لا أن إذنَه لهم في ذلك واقعٌ بعده أو متوقَّع { أَنَّهُ } يعني موسى عليه الصلاة والسلام { لَكَبِيرُكُمُ } أي في فنكم وأعلمُكم به وأستاذكُم { ٱلَّذِى عَلَّمَكُمُ ٱلسّحْرَ } فتواطأتم على ما فعلتم أو فعلّمكم شيئاً دون شيء فلذلك غلبكم، وهذه شُبهةٌ زوّرها اللعينُ وألقاها على قومه وأراهم أن أمرَ الإيمان منوطٌ بإذنه فلما كان إيمانُهم بغير إذنه لم يكن معتدًّا به وأنهم من تلامذته عليه الصلاة والسلام، فلا عبرةَ بما أظهره كما لا عبرةَ بما أظهروه وذلك لِما اعتراه من الخوف من اقتداء الناسِ بالسحرة في الإيمان بالله تعالى ثم أقبل عليهم بالوعيد المؤكّد حيث قال: { فَلأقَطّعَنَّ } أي فوالله لأُقطعن { أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ } أي اليدَ اليمنى والرجلَ اليسرى، ومن ابتدائيةٌ كأن القطعَ ابتداءٌ من مخالفة العضو، فإن المبتدِىءَ من المعروض مبتدِىءٌ من العارض أيضاً، وهي مع مجرورها في حيّز النصبِ على الحالية أي لأقطعنّها مختلفاتٍ، وتعيـينُ تلك الحال للإيذان بتحقيق الأمر وإيقاعِه لا محالة بتعيـين كيفيتِه المعهودة في باب السياسة لا لأنها أفظعُ من غيرها { وَلأصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ } أي عليها، وإيثارُ كلمةِ (في) للدلالة على إبقائهم عليها زماناً مديداً تشبـيهاً لاستمرارهم عليها باستقرار المظروفِ المشتملِ عليه، قالوا: وهو أولُ من صَلَب، وصيغةُ التفعيل في الفعلَين للتكثير وقد قرئا بالتخفيف { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا } يريد به نفسه وموسى عليه الصلاة والسلام لقوله: آمنتم له قبل أن آذَنَ لكم، واللامُ مع الإيمان في كتاب الله تعالى لغيره تعالى وهذا إما لقصد توضيعِ موسى عليه الصلاة والسلام والهُزْءِ به لأنه لم يكن من التعذيب في شيء، وإما لإراءة أن إيمانَهم لم يكن عن مشاهدة المعجزة ومعاينةِ البرهان بل كان عن خوف من قِبل موسى عليه الصلاة والسلام حيث رأوا ابتلاعَ عصاه لحبالهم وعِصِيَّهم فخافوا على أنفسهم أيضاً، وقيل: يريد به ربَّ موسى الذي آمنوا به بقولهم: آمنا برب هارون وموسى { أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىٰ } أي أدوم.

{ قَالُواْ } غير مكترثين بوعيده { لَن نُّؤْثِرَكَ } لن نختارك بالإيمان والاتّباع { عَلَىٰ مَا جَاءنَا } من الله على يد موسى عليه الصلاة والسلام { مِنَ ٱلْبَيّنَـٰتِ } من المعجزات الظاهرة فإن ما ظهر بـيده عليه الصلاة والسلام من العصا كان مشتملاً على معجزات جمّة كما مر تحقيقه فيما سلف، فإنهم كانوا عارفين بجلائلها ودقائِقها { وَٱلَّذِى فَطَرَنَا } أي خلقنا وسائرَ المخلوقات وهو عطفٌ على ما جاءنا وتأخيرُه لأن ما في ضمنه آيةٌ عقليةٌ نظرية وما شاهدوه آيةٌ حسيةٌ ظاهرة، وإيرادُه تعالى بعنوان فاطريته تعالى لهم للإشعار بعلة الحُكم فإن خالقيتَه لهم وكونَ فرعونَ من جملة مخلوقاتِه مما يوجب عدَم إيثارِهم له عليه سبحانه وتعالى، وهذا جوابٌ منهم لتوبـيخ فرعونَ بقوله: { قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ } [طه: 71]، وقيل: هو قسَمٌ محذوفُ الجواب لدِلالة المذكورِ عليه أي وحقَّ الذي فطرنا لا نؤثرك الخ، ولا مساغَ لكون المذكورِ جواباً له عند من يجوّز تقديمَ الجواب أيضاً لما أن القسمَ لا يجاب بلن إلا على شذوذ، وقوله تعالى: { فَٱقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ } جوابٌ عن تهديده بقوله: لأقطعن الخ، أي فاصنع ما أنت صانعُه أو فاحكم به وقوله تعالى: { إِنَّمَا تَقْضِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَآ } مع ما بعده تعليلٌ لعدم المبالاة المستفادِ مما سبق من الأمر بالقضاء، أي إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الحياةِ الدنيا فحسبُ، وما لنا من رغبة في عذْبها ولا رهبةٍ من عذابها.