التفاسير

< >
عرض

كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ
٤
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
٥
-الحج

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

قوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْهِ } أي على الشَّيطانِ صفة أخرى له وقوله تعالى: { أَنَّهُ } فاعلُ كتبَ والضَّميرُ للشَّأنِ أي رُقم به لظهور ذلك من حاله أنَّ الشَّأنَ { مَن تَوَلاَّهُ } أي اتَّخذهُ وليًّا وتبعه { فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ } بالفتح على أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ والجملة جوابُ الشرطِ إنْ جُعلت مَن شرطيةً وخبرٌ لها إنْ جُعلتْ موصولةً متضمنة لمعنى الشَّرطِ أي من تولاَّه فشأنُه أنْ يُضلَّه عن طريق الجنَّةِ أو طريق الحقِّ أو فحقٌّ أنَّه يُضلُّه قطعاً، وقيل: فإنَّه معطوفٌ على أنَّه وفيه من التَّعسفِ ما لا يخفى. وقيلَ وقيلَ ممَّا لا يخلُو عن التَّمحلِ والتأويلِ. وقُرىء فإنَّه بالكسرِ على أنَّه خبرٌ لمَن أو جوابٌ لها. وقُرىء بالكسرِ فيهما على حكايةِ المكتوبِ كما هو مثل ما في قولِك: كتبتُ إنَّ الله يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ أو على إضمارِ القولِ أو تضمينِ الكتبِ معناهُ على رأيِ مَن يراهُ { وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } بحملِه على مباشرةِ ما يُؤدِّي إليه من السَّيِّئاتِ.

{ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } إثرَ ما حكى أحوالَ المُجادلين بغير علمٍ وأُشير إلى ما يؤول إليه أمرُهم أقيمتْ الحجَّةُ الدَّالَّةُ على تحقُّقِ ما جادلوا فيه من البعثِ { إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ ٱلْبَعْثِ } من إمكانِه وكونه مقدُوراً له تعالى أو من وقوعِه. وقُرىء من البَعَثِ بالتَّحريكِ كالجَلَبِ في الجَلْب. والتَّعبـيرُ عن اعتقادِهم في حقِّه بالرَّيبِ مع التَّنكيرِ المنبىءِ عن القلَّةِ مع أنَّهم جازمون باستحالتِه وإيرادِ كلمة الشَّكِّ مع تقررِ حالِهم في ذلك وإيثارِ ما عليه النَّظمُ الكريمُ على أنْ يقالَ إنِ ارتبتُم في البعثِ فقد مرَّ تحقيقُه في تفسير قوله تعالى: { { وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا } [البقرة: 23] { فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ } أي فانظُروا إلى مبدأ خلقِكم ليزولَ ريبُكم، فإنَّا خلقناكُم أي خلقنا كلَّ فردٍ منكُم { مّن تُرَابٍ } في ضمنِ خلقِ آدمَ منه خلقاً إجماليًّا فإن خلق كلِّ فردٍ من أفرادِ البشرِ له حظٌّ من خلقِه عليه السَّلامُ إذ لم تكن فطرتُه الشَّريفةُ مقصورةً على نفسه بل كانتْ أُنموذجاً منطوياً على فطرة سائرِ أفراد الجنسِ انطواءً إجماليًّا مستتبعاً لجريانِ آثارِها على الكلِّ فكان خَلقُه عليه السَّلامُ من التُّرابِ خلقاً للكلِّ منه كما مرَّ تحقيقُه مراراً { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } أي ثمَّ خلقناكُم خلقاً تفصيلياً من نُطفةٍ أي من منيَ من النَّطفِ الذي هو الصَّبُّ { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } أي قطعةٍ من الدَّمِ جامدةٍ متكوِّنةٍ من المنيِّ { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ } أي قطعةٍ من اللَّحمِ متكوِّنةٍ من العَلَقةِ وهي في الأصلِ مقدارُ ما يُمضغ { مُّخَلَّقَةٍ } بالجرِّ صفةُ مضغةٍ أي مستبـينة الخلقِ مصوَّرةٍ { وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } أي لم يستبنْ خلقُها وصورتُها بعد. والمرادُ تفصيلُ حالِ المضغةِ وكونُها أَوَّلاً قطعةً لم يظهرْ فيها شيءٌ من الأعضاءِ ثمَّ ظهرتْ بعد ذلك شَيئاً فشَيئاً وكان مُقتضى التَّرتيبِ السَّابقِ المبنيِّ على التَّدرجِ من المبادىءِ البعيدةِ إلى القريبةِ أنْ يقدِّمَ غيرَ المخلَّقةِ على المخلَّقةِ وإنَّما أُخِّرتْ عنها لأنَّها عدمُ المَلَكةِ. هذا وقد فُسِّرتَا بالمُسوَّاةِ وغيرِ المُسوَّاةِ وبالتَّامةِ والسَّاقطةِ وليس بذاكَ وفي جعلِ كلِّ واحدةٍ من هذه المراتبِ مبدأً لخلقِهم لا لخلقِ ما بعدَها من المراتبِ كما في قولِه تعالى: { { ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً } [المؤمنون: 14] الآيةَ، مزيدُ دلالة على عظيمِ قُدرتِه تعالى وكسرٍ لسَورةِ استبعادِهم.

{ لّنُبَيّنَ لَكُمْ } متعلِّقٌ بخلقنا وتركُ المفعولِ لتفخيمِه كمًّا وكيفاً أي خلقناكُم على هذا النَّمطِ البديعِ ليبـين لكُم بذلك ما لا تحصرُه العبارةُ من الحقائقِ والدَّقائقِ التي من جُملتها سرُّ البعثِ فإنَّ مَن تأمَّل فيما ذُكر من الخلقِ التدريجيِّ تأمُّلاً حقيقيًّا جزمَ جَزْماً ضروريًّا بأنَّ مَن قدَرَ على خلقِ البشرِ أوَّلاً من تُرابٍ لم يشمَّ رائحةَ الحياةِ قَطُّ وإنشائِه على وجهٍ مصحِّحٌ لتوليدِ مثلِه مرَّةً بعد أُخرى بتصريفِه في أطوارِ الخلقةِ وتحويلِه من حالٍ إلى حالٍ مع ما بـينَ تلك الأطوارِ والأحوالِ من المُخالفةِ والتَّباينِ فهو قادرٌ على إعادتِه بل هو أهونُ في القياسِ نظراً إلى الفاعلِ والقابلِ. وقُرىء ليبـيِّن بطريقِ الالتفاتِ وقولُه تعالى: { وَنُقِرُّ فِى ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَاء } استئنافٌ مسوقٌ لبـيانِ حالِهم بعد تمامِ خلقِهم. وعدمُ نظمِ هذا وما عُطف عليه في سلكِ الخلقِ المعلَّل بالتَّبـيـين مع كونِهما من متمماتِه ومن مبادي التَّبـيـين أيضاً لما أنَّ دلالةَ الأوَّلِ على كمالِ قُدرته تعالى على جميعِ المقدُورات التي من جُملتها البعثُ المبحوثُ عنه أجلى وأظهرُ أي ونحنُ نقرُّ في الأرحامِ بعد ذلك ما نشاءُ أن نقرَّه فيهَا.

{ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى } هو وقتُ الوضعِ وأدناهُ ستَّةُ أشهرٍ، وأقصاهُ سنتانِ وقيل: أربعُ سنين وفيه إشارةٌ إلى أنَّ بعضَ ما في الأرحامِ لا يشاءُ الله تعالى إقرارَه فيها بعد تكاملِ خلقِه فتسقطه. والتَّعرضُ للإزلاقِ لا يُناسبُ المقامَ لأنَّ الكلامَ فيما جرى عليه أطوارُ الخلقِ وهذا صريحٌ في أنَّ المرادَ بغير المخلَّقةِ ليس من وُلدَ ناقصاً أو مَعيباً وأنَّ ما فُصِّل إلى هنا هي الأطوارُ المتواردةُ على المولودِ قبلَ الولادةِ. وقُرىء يُقرُّ بالياءِ ونقُرُّ ويقُرُّ بضمِّ القافِ من قَررتَ الماءَ إذا صببتَه. { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ } أي من بطونِ أمَّهاتِكم بعد إقرارِكم فيها عند تمامِ الأجلِ المُسمَّى { طِفْلاً } أي حالَ كونِكم أطفالاً. والإفرادُ باعتبارِ كلِّ واحدٍ منهم أو بإرادةِ الجنسِ المنتظمِ للواحدِ والمتعدِّدِ. وقُرىء يُخرجكم بالياءِ. وقولُه تعالى: { ثُمَّ لِتَـبْلُغُواْ أَشُدَّكُـمْ } علَّةٌ لنخرجكم معطوفةٌ على علَّةٍ أُخرى له مناسبةٍ لها كأنَّه قيل: ثمَّ نُخرجكم لتكبرُوا شَيئاً فشَيئاً ثم لتبلغُوا كمالَكم في القُوَّةِ والعقلِ والتَّميـيزِ، وقيل: التَّقديرُ ثم نُمهلكم لتبلغُوا الخ، وما قيل إنَّه معطوفٌ على نبـين مخلٌّ بجزالةِ النَّظمِ الكريمِ هذا وقد قُرىء ما قبله من الفِعلينِ بالنَّصبِ حكايةً وغَيْبةً. فهو حينئذٍ عطفٌ على نبـين مثلهما والمعنى خلقناكُم على التَّدريجِ المذكورِ لغايتينِ مترتبتينِ عليه إحداهُما أنُ نبـيِّن شؤونَنا والثَّانيةُ أنْ نُقرَّكم في الأرحامِ ثم نُخرجَكم صغاراً ثم لتبلغُوا أشدَّكم. وتقديمُ التَّبـيـينِ على ما بعدَهُ مع أنَّ حصولَه بالفعلِ بعد الكلِّ للإيذانِ بأنَّه غايةُ الغاياتِ ومقصودٌ بالذَّاتِ. وإعادةُ اللامِ هٰهنا مع تجريدِ الأَوَّلينِ عنها للإشعارِ بأصالتِه في الغرضيَّةِ بالنَّسبةِ إليهما إذْ عليه يدورُ التَّكليفُ المُؤدِّي إلى السَّعادةِ والشَّقاوةِ. وإيثارُ البلوغِ مُسنداً إلى المخاطبـينَ على التَّبليغِ مُسنداً إليه تعالى كالأفعالِ السَّابقةِ لأنَّه المناسبُ لبـيانِ حالِ اتَّصافِهم بالكمالِ واستقلالِهم بمبدئيةِ الآثارِ والأفعالِ. والأشُدُّ من ألفاظِ الجموعِ التي لم يُستعملْ لها واحدٌ كالأُسُدةِ والقَتُودِ وكأنَّها حين كانتْ شدَّةً في غيرِ شيءٍ بُنيتْ على لفظِ الجمعِ. { وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ } أي بعد بلوغِ الأشُدِّ أو قبلَه. وقُرىء يَتوفَّى مبنيًّا للفاعلِ أي يتوفَّاه الله تعالى { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ } وهو الهَرَمُ والخَرَفُ. وقُرىء بسكونِ الميمِ. وإيرادُ الردِّ والتَّوفِّي على صيغةِ المبنيِّ للمفعولِ للجَريِ على سَنَنِ الكبرياءِ لتعين الفاعلِ { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ } أي علمٍ كثيرٍ { شَيْئاً } أي شيئاً من الأشياءِ أو شيئاً من العلمِ مبالغةً في انتقاصِ علمِه ويُنكر ما عرفَهُ ويعجزُ عمَّا قدرَ عليه. وفيهِ من التَّنبـيهِ على صحَّةِ البعثِ ما لا يخفَى.

{ وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً } حجَّةٌ أُخرى على صحَّةِ البعثِ، والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممَّن يتأتَّى منه الرُّؤيةُ. وصيغةُ المضارعِ للدِّلالةِ على التَّجددِ والاستمرارِ وهي بصريةٌ. وهامدةً حالٌ من الأرضِ، أي ميِّتةً يابسةً، من همدتِ النَّارُ إذَا صارتْ رَمَاداً { فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَاء } أي المطرَ { ٱهْتَزَّتْ } تحرَّكتْ بالنَّباتِ { وَرَبَتْ } انتفختْ وازدادتْ، وقُرىء ربأتْ أي ارتفعتْ { وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ } أي صنفٍ { بَهِيجٍ } حسنٍ رائقٍ يسرُّ ناظرَه.