التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ
١٠
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
١١
-آل عمران

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } إثرَ ما بـين الدينَ الحقَّ والتوحيد وذكر أحوالَ الكتب الناطقةِ به وشرح شأن القرآنِ العظيم وكيفيةِ إيمانِ العلماء الراسخين به شَرَع في بـيان حال مَنْ كفر به، والمرادُ بالموصول جنسُ الكفرة الشاملُ لجميع الأصناف، وقيل: وفدُ نجرانَ أو اليهودُ من قريظةَ والنضِير أو مشركو العرب { لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ } أي لن تنفعَهم وقرىء بالتذكير وبسكون الياء جِدّاً في استثقال الحركة على حروف اللين { أَمْوٰلَهُمُ } التي يبذُلونها في جلب المنافع ودفعِ المضارّ { وَلاَ أَوْلَـٰدُهُمْ } الذين بهم يتناصرون في الأمور المُهمة وعليهم يعوّلون في الخطوب المُلمة، وتأخيرُ الأولاد عن الأموال مع توسيط حرف النفي بـينهما إما لعراقة الأولادِ في كشف الكروب، أو لأن الأموال أولُ عُدّة يُفزع إليها عند نزول الخطوب { مِنَ ٱللَّهِ } من عذابه تعالى { شَيْئاً } أي شيئاً من الإغناء، وقيل: كلمة من بمعنى البدل والمعنى بدلَ رحمةِ الله أو بدلَ طاعته كما في قوله تعالى: { { إَنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ ٱلْحَقّ شَيْئًا } [يونس، الآية 36] أي بدل الحق ومنه قوله: ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدُّ أي لا ينفعه جَدُّه بدلك أي بدلَ رحمتك كما في قوله تعالى: { وَمَا أَمْوٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ بِٱلَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ } [سبأ، الآية 37] وأنت خبـير بأن احتمال سدِّ أموالِهم وأولادهم مسدَّ رحمة الله تعالى أو طاعته مما لا يخطُر ببال أحد حتى يُتصدَّى لنفيه، والأولُ هو الأليقُ بتفظيع حال الكفرة وتهويل أمرهم والأنسبُ بما بعده من قوله تعالى: { وَأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ } ومن قوله تعالى: { فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ } [آل عمران، الآية 11] أي أولئك المتّصفون بالكفر حطبُ النار وحصَبُها الذي تُسعّر به، فإن أريد بـيانُ حالِهم عند التسعير فإيثارُ الجملةِ الاسمية للدِلالة على تحقق الأمر وتقرّره، وإلا فهو للإيذان بأن حقيقة حالِهم ذلك، وأن أحوالهم الظاهرةَ بمنزلة العدم فهم حال كونهم في الدنيا وَقودُ النار بأعيانهم. وفيه من الدلالة على كمال ملابستهم بالنار ما لا يخفىٰ و{ هُمْ } يحتمل الابتداءَ وأن يكون ضميرَ فصلٍ والجملة إما مستأنفةٌ مقرِّره لعدم الإغناء أو معطوفة على خبر إن، وأيا ما كان ففيها تعيـينٌ للعذاب الذي بـيّن أن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم منه شيئاً. وقرىء وُقود النار بضم الواو وهو مصدر أي أهلُ وقودها { كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ } الدأبُ مصدر دأَبَ في العمل إذا كدح فيه وتعِب غلب استعمالُه في معنى الشأن والحال والعادة، ومحلُّ الكاف الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدإٍ محذوف وقد جُوِّز النصبُ بلن تغني أو بالوَقود أي لن تغني عنهم كما لم تغنِ عن أولئك أو توقد بهم النارُ كما توقد بهم، وأنت خبـير بأن المذكور في تفسير الدأب إنما هو التكذيبُ والأخذ من غير تعرُّض لعدم الإغناء لا سيما على تقدير كونِ مِنْ بمعنى البدل كما هو رأيُ المجوِّز، ولا لإيقاد النار فيُحمل على التعليل وهو خلافُ الظاهر على أنه يلزَمُ الفصلُ بـين العامل والمعمول بالأجنبـي على تقدير النصب بأن تغني وهو قوله تعالى: { وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ } إلا أن يُجعل استئنافاً معطوفاً على خبر إن فالوجهُ هو الرفعُ على الخبرية أي دأبُ هؤلاءِ في الكفر وعدمِ النجاة من أخْذِ الله تعالى وعذابه كدأب آلِ فرعون { وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي من قبل آلِ فرعونَ من الأمم الكافرة، فالموصولُ في محل الجر عطفاً على ما قبله وقوله تعالى: { كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا } بـيانٌ وتفسير لدأبهم الذي فعلوا، على طريق الاستئناف المبني على السؤال كأنه قيل: كيف كان دأبهم؟ فقيل: كذبوا بآياتنا وقوله تعالى: { فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ } تفسيرٌ لدأبهم الذي فُعل بهم أي فأخذهم الله وعاقبهم ولم يجدوا من بأس الله تعالى محيصاً، فدأبُ هؤلاء الكفرةِ أيضاً كدأبهم، وقيل: كذبوا الخ حال من { فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ } على إضمار قد أي دأبُ هؤلاء كدأب أولئك وقد كذبوا الخ، وأما كونه خبراً عن الموصول كما قيل فمما يذهب برونق النظم الكريم، والالتفاتُ إلى التكلم أولاً للجري على سنن الكبرياء، وإلى الغَيبة ثانياً بإظهار الجلالة لتربـية المهابةِ وإدخالِ الروعة. { بِذُنُوبِهِمْ } إن أريد بها تكذيبُهم بالآيات فالباء للسببـية جيء بها تأكيداً لما تفيده الفاء من سببـية ما قبلها لما بعدها وإن أريد بها سائرُ ذنوبهم فالباء للملابسة جيء بها للدلالة على أن لهم ذنوباً أخرى أي فأخذهم ملتبسين بذنوبهم غيرَ تائبـين عنها كما في قوله تعالى: { وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَـٰفِرُونَ } [التوبة: 55] والذنب في الأصل التِلْوُ والتابع، وسُمّيت الجريمةُ ذنباً لأنها تتلو أي يتبعُ عقابُها فاعلَها { وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } تذيـيلٌ مقرِّر لمضمون ما قبله من الأخذ وتكملةٌ له.