التفاسير

< >
عرض

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ ٱلْعَيْنِ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ
١٣
-آل عمران

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ قَدْ كَانَ لَكُمْ } جوابُ قسمٍ محذوفٍ وهو من تمام القول المأمور به جيء به لتقرير مضمونِ ما قبله وتحقيقِه، والخطابُ لليهود أيضاً والظرف خبر كان على أنها ناقصة ولتوسطه بـينها وبـين اسمها تُرك التأنيث كما في قوله: [البسيط]

إن أمراً غرّه منكن واحدةٌبعدي وبعدك في الدنيا لمغرورُ

على أن التأنيث هٰهنا غير حقيقي أو هو متعلق بكان على أنها تامة وإنما قدم على فاعلها لما مر مراراً من الاعتناء بما قُدّم والتشويق إلى ما أُخِّر أي والله قد كان لكم أيها المغترون بعددهم وعُدَدهم { ءَايَةٌ } عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم إنكم ستُغلبون { فِي فِئَتَيْنِ } أي فرقتين أو جماعتين فإن المغلوبة منهما كانت مدلة بكثرتها معجبة بعزتها وقد لقِيَها ما لقيها فسيصيبُكم ما يصيبكم، ومحلُ الظرف الرفعُ على أنه صفة لآيةٌ وقيل: النصب على خبرية كان والظرف الأول متعلق بمحذوف من آية { ٱلْتَقَتَا } في حيز الجر على أنه صفة فئتين أي تلاقتا بالقتال يوم بدر { فِئَةٌ } بالرفع خبرُ مبتدإٍ محذوف أي إحداهما فئة كما في قوله: [الطويل]

إذا متّ كان الناسُ حزبـين: شامتٌوآخَرُ مُثنٍ بالذي كنت أصنعُ

أي أحدهما شامت والآخر مثنٍ وقولِه:

حتى إذا ما استقلّ النجمُ في غلَسٍوغودر البقلُ ملويٌّ ومحصودُ

والجملة مع ما عطف عليها مستأنفةٌ لتقرير ما في الفئتين من الآية وقوله تعالى: { تُقَـٰتِلُ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } في محل الرفع على أنه صفةُ { فِئَةٌ } كأنه قيل: فئة مؤمنة ولكن ذُكر مكانه من أحكام الإيمان ما يليقُ بالمقام مدحاً لهم واعتداداً بقتالهم وإيذاناً بأنه المدارُ في تحقق الآية وهي رؤية القليل كثيراً وقرىء يقاتل على تأويل الفئة بالقوم أو الفريق { وَأُخْرَىٰ } نعت لمبتدأ محذوف معطوف على ما حذف من الجملة الأولى أي وفئة أخرى وإنما نكرت والقياس تعريفها كقرينتها لوضوح أن التفريق لنفس المثنى المقدم ذكره وعدم الحاجة إلى التعريف وقوله تعالى: { كَافِرَةٌ } خبرُ المبتدأ المحذوف وإنما لم توصف هذه الفئة بما يقابل صفة الفئة الأولى إسقاطاً لقتالهم عن درجة الاعتبار وإيذاناً بأنهم لم يتصدَّوْا للقتال لما اعتراهم من الرعب والهيبة وقيل: كلٌّ من المتعاطِفَين بدل من الضمير في { ٱلْتَقَتَا } وما بعدهما صفة فلا بد من ضمير محذوفٍ عائدٍ إلى المبدل منه مسوِّغٍ لوصف البدل بالجملة العارية عن ضميره أي فئةٌ منهما تقاتل الخ وفئة أخرى كافرة، ويجوز أن يكون كلٌّ منهما مبتدأً وما بعدهما خبراً، وقيل: كل منهما مبتدأ محذوف الخبر أي منمهما فئة تقاتل الخ وقرىء فئةٍ بالجر على البدلية من فئتين بدلَ بعض من كل وقد مر أنه لا بد من ضمير عائد إلى المبدل منه ويسمى بدلاً تفصيلياً كما في قول كثير عزة: [الطويل]

وكنت كذي رِجلين رِجلٍ صحيحةورجلٍ رمى فيها الزمانُ فَشُّلَّت

وقرىء فئة الخ بالنصب على المدح أو على الحالية من ضمير التقتا كأنه قيل: التقتا مؤمنةً وكافرةً فيكون { فِئَةٌ } و{ أُخْرَىٰ } توطئةً لما هو الحال حقيقة إذ المقصودُ بالذكر وصْفاهما كما في قولك: جاءني زيد رجلاً صالحاً.

{ يَرَوْنَهُمْ } أي يري الفئةُ الأخيرةُ الفئةُ الأولى، وإيثارُ صيغة الجمعِ للدلالة على شمول الرؤيةِ لكل واحدٍ واحدٍ من آحاد الفئة، والجملةُ في محل الرفع على أنها صفةٌ للفئة الأخيرة أو مستأنفة مبـيّنةٌ لكيفية الآية { مّثْلَيْهِمْ } أي مثليْ عددِ الرائين ألفين إذا كانوا قريباً من ألف. كانوا تسعمائةٍ وخمسين مقاتلاً رأسَهم عُتْبةُ بنُ ربـيعةَ بنِ عَبْد شَمْس وفيهم أبو سفيانَ وأبو جهلٍ وكان فيهم من الخيل والإبل مائةُ فرسٍ وسبعُمائة بعير ومن أصناف الأسلحة عددٌ لا يحصى، عن محمد بن أبـي الفرات عن سعد بن أوس أنه قال: أسرَ المشركون رجلاً من المسلمين فسألوه كم كنتم؟ قال: ثلثُمائةٍ وبضعةَ عشرَ قالوا: ما كنا نراكم إلا تُضعِفون علينا، أو مثلي عددِ المرئيّـين أي ستَّمائةٍ ونيفاً وعشرين حيث كانوا ثلثمائة وثلاثةَ عشرَ رجلاً سبعةٌ وسبعون رجلاً من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار رضوانُ الله تعالى عليهم أجمعين وكان صاحبَ رايةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين عليُّ بن أبـي طالب رضي الله عنه وصاحبَ راية الأنصار سعدُ بن عبادة الخزرجي وكان في العسكر تسعون بعيراً وفَرَسان أحدُهما للمِقداد بن عَمْرو والآخر لمَرْثَد بن أبـي مَرْثَد وستُّ أدرع وثمانيةُ سيوف وجميع من استُشهد يومئذ من المسلمين أربعةَ عشرَ رجلاً ستةٌ من المهاجرين وثمانية من الأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين أراهم الله عز وجل كذلك مع قِلتهم ليَهابوهم ويَجبُنوا عن قتالهم مدداً لهم منه سبحانه كما أمدهم بالملائكة عليهم السلام وكان ذلك عند التقاء الفئتين بعد أن قلَّلَهم في أعينهم عند ترائيهما ليجترئوا عليهم ولا يهرُبوا من أول الأمر حين ينجيهم الهرب، وقيل: يري الفئةُ الأولى الفئةُ الأخيرةَ مثليْ أنفسِهم مع كونهم ثلاثةَ أمثالِهم ليثبُتوا ويطمئنوا بالنصر الموعود في قوله تعالى: { { فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } [الأنفال، الآية 66] والأول هو الأولى لأن رؤية المِثلين غيرُ متعيّنةٍ من جانب المؤمنين بل قد وقعت رؤيةُ المثل بل أقلَّ منه أيضاً فإنه روي أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يُضعِفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً ثم قلّلهم الله تعالى أيضاً في أعينهم حتى رأوهم عدداً يسيراً أقلَّ من أنفسهم.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: لقد قُلِّلوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبـي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا منهم رجلاً فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفاً، فلو أريد رؤية المؤمنين المشركين أقلَّ من عددهم في نفس الأمر كما في سورة الأنفال لكانت رؤيتُهم إياهم أقلَّ من أنفسهم أحقَّ بالذكر في كونهم آيةً من رؤيتهم مِثلَيهم على أن إبانةَ آثارِ قُدرةِ الله تعالى وحكمتِه للكفرة بإراءتهم القليلَ كثيراً والضعيفَ قوياً وإلقاءِ الرعب في قلوبهم بسبب ذلك أدخلُ في كونها آيةً لهم وحجةً عليهم وأقربَ إلى اعتراف المخاطبـين بذلك لكثرة مخالطتِهم الكفرةَ المشاهدين للحال وكذا تعلقُ الفعل بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول، فجعلُ أقربِ المذكورَين السابقَين فاعلاً وأبعدِهما مفعولاً سواءٌ جعلُ الجملة صفةً أو مستأنفة أولى من العكس هذا ما تقضيه جزالةُ التنزيلِ على قراءة الجُمهور، ولا ينبغي جعلُ الخطاب لمشركي مكة كما قيل أما إن جُعل الوعيد عبارةً عن هزيمة بدر كما صرحوا به فظاهرٌ لا خفاء فيه وأما إن جُعل عبارةً عن هزيمة أخرى فلأن الفئةَ التي شاهدت تلك الآيةَ الهائلة هم المخاطبون حينئذ بالتعبـير عنهم بفئة مُبهمةٍ تارة وموصوفةٍ أخرى ثم إسنادُ المشاهدة إليها مع كون إسنادها إلى المخاطبـين أوقعُ في إلزام الحجة وأدخلُ في التبكيت مما لا داعي إليه، وبهذا يتبـين سرُّ جعلِ الخطابِ الثاني للمؤمنين، وأما قراءة ترونهم بتاء الخطاب فظاهرُها وإن اقتضى توجيهَ الخطابِ الثاني إلى المشركين لكنه ليس بنص في ذلك لأنه وإن اندفع به المحذورُ الأخيرُ فالأولُ باقٍ بحاله فلعل رؤية المشركين نزلت منزلةَ رؤيةِ اليهود لما بـينهم من الاتحاد في الكفر والاتفاق في الكلمة لا سيما بعد ما وقع بـينهم بواسطة كعب بن الأشرف من العهد والميثاق، فأُسندت الرؤيةُ إليهم مبالغةً في البـيان وتحقيقاً لعُروض مثلِ تلك الحالة لهم فتدبر. وقيل: المرادُ جميعُ الكفرة ولا ريب في صحته وسَداده، وقرىء يُرَونهم وتُرَونهم على البناء للمفعول من الإراءة أي يُريهم أو يريكم الله تعالى كذلك{ رَأْىَ ٱلْعَيْنِ } مصدر مؤكدٌ ليَرَوْنهم إن كانت الرؤية بصريةً، أو مصدر تشبـيهيّ إن كانت قلبـية أي رؤيةً ظاهرة مكشوفةً جارية مَجرىٰ رؤية العين { وَٱللَّهُ يُؤَيّدُ } أي يقوي { بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء } أي يؤيده من غير توسيط الأسباب العادية كما أيد الفئةَ المقاتلة في سبـيله بما ذكر من النصر وهو تمام القول المأمور به { إِنَّ فِى ذَلِكَ } إشارةٌ إلى ما ذكر من رؤية القليل كثيراً المستتبعةِ لغَلَبة القليل العديمِ العُدة على الكثير الشاكي السلاحِ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببُعد منزلةِ المشار إليه في الفضل { لَعِبْرَةً } العبرة فِعلة من العبور كالرِّكبة من الركوب والجِلْسة من الجلوس والمرادُ بها الاتعاظ فإنه نوعٌ من العبور أي لعبرةً عظيمة كائنة { لأُوْلِى ٱلأبْصَـٰرِ } لذوي العقولِ والبصائر وقيل: لمن أبصرهم، وهو إما من تمام الكلام الداخلِ تحت القول مقرِّر لما قبله بطريق التذيـيل وإما واردٌ من جهته تعالى تصديقاً لمقالته عليه الصلاة والسلام.