التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ
١٦٨
وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
١٦٩
-آل عمران

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ الَّذِينَ قَالُواْ } مرفوعٌ على أنه بدلٌ من واو يكتُمون أو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، وقيل: مبتدأ خبرُه (قل فادرؤا) بحذف العائدِ تقديرُه { قُلْ لَهُمْ } الخ، أو منصوبٌ على الذم أو على أنه نعتٌ للذين نافقوا أو بدلٌ منه، وقيل: مجرورٌ على أنه بدلٌ من ضمير أفواهِهم أو قلوبِهم كما في قوله: [الطويل]

على جودِه لضن بالماء حاتمُ

والمرادُ بهم عبدُ اللَّه بنُ أُبـيّ وأصحابُه { لإِخْوٰنِهِمْ } أي لأجلهم وهم من قُتل يومَ أحدٍ من جنسهم أو من أقاربهم فيندرج فيهم بعضُ الشهداءِ { وَقَعَدُواْ } حال من ضمير قالوا بتقدير قد، أي قالوا: وقد قعدوا عن القتال بالانخذال { لَوْ أَطَاعُونَا } أي فيما أمرناهم به ووافقونا في ذلك { مَا قُتِلُوا } كما لم نُقتلْ، وفيه إيذانٌ بأنهم أمروهم بالانخذال حين انخذلوا وأغْوَوْهم كما غَوَوْا، وحملُ القعودِ على ما استصوبه ابنُ أُبـيّ عند المشاورةِ من الإقامة بالمدينة ابتداءً، وجعلُ الإطاعةِ عبارةً عن قبول رأيِه والعملِ به يرُده كونُ الجملةِ حاليةً فإنها لتعيـين ما فيه العصيانُ والمخالفةُ مع أن ابنَ أبـيَ ليس من القاعدين فيها بذلك المعنى، على أن تخصيصَ عدمِ الطاعةِ بإخوانهم ينادي باختصاص الأمرِ أيضاً، بهم فيستحيل أن يُحمَلَ على ما خوطب به النبـيُّ صلى الله عليه وسلم عند المشاورة { قُلْ } تبكيتاً لهم وإظهاراً لكذبهم { فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ } جوابٌ لشرط قد حُذف تعويلاً على ما بعده من قوله تعالى: { إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } كما أنه شرطٌ حُذف جوابُه لدِلالة الجوابِ المذكورِ عليه أي أن كنتم صادقين فيما يُنبىء عنه قولُكم من أنكم قادرون على دفع القتلِ عمن كُتب عليه فادفعوا عن أنفسكم الموتَ الذي كُتب عليكم مُعلَّقاً بسبب خاصٍّ موقتاً بوقت معيّنٍ بدفع سببِه، فإن أسبابَ الموتِ في إمكان المدافعةِ بالحال وامتناعِها سواءٌ، وأنفسُكم أعزُّ عليكم من إخوانكم وأمرُها أهمُّ لديكم من أمرهم، والمعنى أن عدمَ قتلِكم كان بسبب أنه لم يكن مكتوباً عليكم لا بسبب أنكم دفعتموه بالقُعود مع كتابته عليكم فإن ذلك مما لا سبـيلَ إليه، بل قد يكون القتالُ سبباً للنجاة والقعود مؤدياً إلى الموت. رُوي أنه مات يوم قالوا سبعون منافقاً، وقيل: أريد { إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } [آل عمران، الآية: 168] في مضمون الشرطية، والمعنى أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقُتلوا قاعدين كما قُتلوا مقاتِلين فقوله تعالى: { فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ } [آل عمران، الآية: 168] حينئذ استهزاءٌ بهم، أي إن كنتم رجالاً دفّاعين لأسباب الموتِ فادرؤا جميعَ أسبابِه حتى لا تموتوا كما درأتم في زعمكم هذا السببَ الخاصَّ.

{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوٰتاً } كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبـيان أن القتلَ الذي يَحذَرونه ويُحذّرون الناسَ منه ليس مما يُحذر بل هو من أجل المطالبِ التي يتنافسُ فيها المتنافسون إثرَ بـيانِ أن الحذرَ لا يُجدي ولا يغني. وقرىء ولا تحسِبن بكسر السين، والمرادُ بهم شهداءُ أحدٍ وكانوا سبعين رجلاً: أربعةٌ من المهاجرين حمزةُ بنُ عبدِ المطلب ومُصعبُ بنُ عميرٍ وعثمانُ بنُ شهابٍ وعبدُ اللَّه بنُ جحشٍ وباقيهم من الأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحدٍ ممن له حظٌّ من الخطاب. وقرىء بالياء على الإسناد إلى ضميره عليه السلام أو ضمير مَنْ يحسَب، وقيل: إلى الذين قُتلوا، والمفعولُ الأولُ محذوفٌ لأنه في الأصل مبتدأٌ جائزُ الحذفِ عند القرينةِ، والتقديرُ ولا يحسَبنّهم الذين قُتلوا أمواتاً أي لا يحسبن الذين قُتلوا أنفسَهم أمواتاً، على أن المرادَ من توجيه النهي إليهم تنبـيهُ السامعين على أنهم أحِقاءُ بأن يَسْلُوا بذلك ويَبْشُروا بالحياة الأبديةِ والكرامةِ السنية والنعيمِ المقيمِ، لكن لا في جميع أوقاتِهم بل عند ابتداءِ القتلِ إذ بعد تبـيُّن حالِهم لهم لا يبقى لاعتبار تسليتِهم وتبشيرِهم فائدة ولا لتنبـيه السامعين وتذكيرهم وجه وقرىء قتلوا بالتشديد لكثرة المقتولين { بَلْ أَحْيَاء } أي بل هم أحياء، وقرىء منصوباً أي بلِ احسَبْهم أحياءً على أن الحُسبانَ بمعنى اليقين كما في قوله: [الطويل]

حسِبتُ التُّقَى والمجدَ خيرَ تجارةرَباحاً إذا ما المرءُ أصبح ثاقلاً

أو على أنه واردٌ على طريق المشاكلةِ { عِندَ رَبّهِمْ } في محل الرفعِ على أنه خبرٌ ثانٍ للمبتدأ المقدرِ، أو صفةٌ لأحياءٌ، أو في محل النصبِ على أنه حالٌ من الضمير في أحياءٌ، وقيل: هو ظرفٌ لأحياء، أو للفعل بعده، والمرادُ بالعندية التقربُ والزُلفىٰ. وفي التعرض لعنوان الربوبـيةِ المنبئةِ عن التربـية والتبليغِ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرهم مزيدُ تكرمةٍ لهم { يُرْزَقُونَ } أي من الجنة، وفيه تأكيدٌ لكونهم أحياءً وتحقيقٌ لمعنى حياتِهم.

قال الإمام الواحدي: الأصحُ في حياة الشهداءِ ما رُوي عن النبـي صلى الله عليه وسلم من أن أرواحَهم في أجواف طيورٍ خُضْرٍ وأنهم يُرزقون ويأكْلون ويتنعمون. ورُوي عنه عليه السلام أنه قال: "لما أصيب إخوانُكم بأحُدٍ جعل الله أرواحَهم في أجواف طيورٍ خضْرٍ تدور في أنهار الجنة" وروي: "ترِدُ أنهارَ الجنةِ وتأكُل من ثمارها وتسرَح من الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديلَ من ذهب معلقةٍ في ظل العرشِ" وفيه دَلالةٌ على أن روحَ الإنسانِ جسمٌ لطيفٌ لا يفنى بخراب البَدَن ولا يتوقف عليه إدراكُه وتألُّمه والتذاذُه، ومن قال بتجريد النفوسِ البشريةِ يقول: المرادُ أن نفوسَ الشهداءِ تتمثل طيوراً خُضْراً أو تتعلق بها فتلتذّ بما ذكر. وقيل: المرادُ أنها تتعلق بالأفلاك والكواكبِ فتلتذ بذلك وتكتسب زيادةَ كمالٍ.