التفاسير

< >
عرض

يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٧١
ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَٱتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
١٧٢
ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ
١٧٣
-آل عمران

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ } كُرِّر لبـيان أن الاستبشارَ المذكورَ ليس بمجرد عدمِ الخوفِ والحزنِ بل به وبما يقارِنُه من نعمةٍ عظيمةٍ لا يقادَرُ قَدْرُها، وهي ثوابُ أعمالِهم، وقد جُوِّز أن يكون الأولُ متعلقاً بحال إخوانِهم، وهذا بحال أنفسِهم بـياناً لبعض ما أُجمل في قوله تعالى: { { فَرِحِينَ بِمَا ءاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [آل عمران، الآية: 170] { مِنَ ٱللَّهِ } متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لنعمةٍ مؤكدةً لما أفاده التنكيرُ من الفخامة الإضافيةِ، أي كائنةٍ منه تعالى { وَفَضَّلَ } أي زيادةٍ عظيمةٍ كما في قوله تعالى: { { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } [يونس، الآية 26].

{ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } بفتح أن، عطفٌ على فضلٍ منتظمٌ معه في سلك المستبشَرِ به، والمرادُ بالمؤمنين إما الشهداءُ والتعبـيرُ عنهم بالمؤمنين للإيذان بسمو رُتبة الإيمانِ وكونِه مناطاً لما نالوه من السعادة، وإما كافةُ أهلِ الإيمانِ من الشهداء وغيرِهم ذُكرت توفيةُ أجورِهم على إيمانهم وعُدَّت من جملة ما يستبشَرُ به الشهداء بحكم الأخُوَة في الدين. وقرىء بكسرها على أنه استئنافٌ معترضٌ دالٌّ على أن ذلك أجرٌ لهم على أن إيمانهم مُشعِرٌ بأن من لا إيمانَ له أعمالُه مُحبطةٌ لا أجرَ له. وفيه من الحث على الجهاد والترغيبِ في الشهادة والبعثِ على ازدياد الطاعةِ وبشرى المؤمنين بالفلاح ما لا يخفى. { الَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَـٰبَهُمُ ٱلْقَرْحُ } صفةٌ مادحةٌ للمؤمنين لا مخصِّصة، أو نُصب على المدح أو رُفع على الابتداء، والخبرُ قوله تعالى: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَٱتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } بجملته، ومن للبـيان، والمقصودُ من الجمع بـين الوصفين المدحُ والتعليلُ لا التقيـيدُ لأن المستجيبـين كلَّهم محسنون ومتقون.

روي " أن أبا سفيان وأصحابَه لما انصرفوا من أحُد فبلغوا الرّوحاءَ ندِموا وهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يُرهِبهم ويُريَهم من نفسه وأصحابِه قوةً فندَب أصحابَه للخروج في طلب أبـي سفيان، وقال: لا يخرُجنَّ معنا إلا من حضر يومَنا بالأمس فخرج صلى الله عليه وسلم مع جماعة حتى بلغوا حمراءَ الأسدِ وهي من المدينة على ثمانية أميالٍ وكان بأصحابه القرْحُ فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتَهم الأجرُ وألقى الله تعالى الرعبَ في قلوب المشركين فذهبوا فنزلت { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ } يعني الركبُ الذين استقبلوهم من عبد قيسٍ أو نُعيم بنِ مسعودٍ الأشجعي، وإطلاقُ الناس عليه لما أنه من جنسهم وكلامُه كلامُهم، يقال: فلان يركبُ الخيلَ ويلبَسُ الثيابَ وما له سوى فرسٍ فردٍ وغيرُ ثوبٍ واحد، أو لأنه انضم إليه ناسٌ من المدينة وأذاعوا كلامَه { إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ } (رُوي أن أبا سفيان نادى عند انصرافِه من أحُد: يا محمدُ موعدُنا موسمُ بدرٍ القابلُ إن شئت، فقال عليه السلام: إن شاء الله تعالى فلما كان القابلُ خرج أبو سفيان في أهل مكةَ حتى نزل مرَّ الظهرانِ فألقى الله تعالى في قلبه الرعبَ وبدا له أن يرجِع فمر به ركبٌ من بني عبدِ قيسٍ يُريدون المدينةَ للمِيرَة فشرَط لهم حِملَ بعيرٍ من زبـيب إن ثبّطوا المسلمين)، وقيل: لقيَ نُعيمُ بنَ مسعودٍ وقد قدِم معتمِراً فسأله ذلك والتزم له عشراً من الإبل وضمِنها منه سهيلُ بنُ عمرو، فخرج نُعيمٌ ووجد المسلمين يتجهزون للخروج فقال لهم: أتَوْكم في دياركم فلم يُفلت منكم أحدٌ إلا شريدٌ أفترَوْن أن تخرُجوا وقد جمعوا لكم ففِرُّوا، فقال عليه السلام: والذي نفسي بـيده لأخرُجَنَّ ولو لم يخرُجْ معي أحدٌ فخرج في سبعين راكباً كلُّهم يقولون: حسبُنا الله ونعم الوكيل " . قيل: هي الكلمة التي قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار.

{ فَزَادَهُمْ إِيمَـٰناً } الضميرُ المستكنّ للمقول أو لمصدرِ قال أو لفاعله إن أُريد به نُعيمٌ وحدَه، والمعنى أنهم لم يلتفتوا إلى ذلك بل ثبَت به يقينُهم بالله تعالى وازداد اطمئنانُهم وأظهروا حميةَ الإسلامِ وأخلصوا النيةَ عنده، وهو دليلٌ على أن الإيمانَ يتفاوت زيادةً ونقصاناً فإن ازديادَ اليقينِ بالإلْفِ وكثرةِ التأملِ وتناصُرِ الحجج مما لا ريب فيه، ويعضُده قولُ ابنِ عمرَ رضي الله تعالى عنهما "قلنا: يا رسولَ الله الإيمانُ يزيدُ وينقص؟ قال: نعم يزيد حتى يُدخِلَ صاحبَه الجنةَ وينقُص حتى يدخِلَ صاحبَه النار" { وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ } أي مُحْسِبُنا الله وكافينا من أحسبه إذا كفاه. والدليلُ على أنه بمعنى المُحسب أنه لا يستفيد بالإضافة تعريفاً في قولك: هذا رجلٌ حسبُك { وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ }، أي نعم الموكولُ إليه، والمخصوصُ بالمدح محذوفٌ أي الله عز وجل.