التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ
١٧٥
وَلاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي ٱلآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١٧٦
-آل عمران

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ إِنَّمَا ذٰلِكُمُ } إشارةٌ إلى المثبَّط أو إلى مَنْ حمله على التثبـيط والخطابُ للمؤمنين وهو مبتدأ وقولُه تعالى: { ٱلشَّيْطَـٰنُ } إما خبرُه وقوله تعالى: { يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ } جملةٌ مستأنفةٌ مبـيِّنة لشيطنته أو حالٌ كما في قوله تعالى: { { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [النمل، الآية 52] الخ، وإما صفتُه والجملةُ خبرُه ويجوز أن تكون الإشارةُ إلى قوله على تقدير مضافٍ أي إنما ذلكم قولُ الشيطانِ أي إبليسَ، والمستكنُّ في { يُخَوّفُ } إما للمقدر وإما للشيطان بحذف الراجعِ إلى المقدر أي يخوِّف به، والمرادُ بأوليائه إما أبو سفيان وأصحابُه فالمفعولُ الأولُ محذوفٌ أي يخوفكم أولياءَه كما هو قراءةُ ابنِ عباس وابنِ مسعودٍ ويؤيِّده قولُه تعالى: { فَلاَ تَخَافُوهُمْ } أي أولياءَه { وَخَافُونِ } في مخالفة أمري، وإما القاعدون فالمفعولُ الثاني محذوفٌ أي يخوفهم الخروجَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والضميرُ البارزُ في { فَلاَ تَخَافُوهُمْ } للناس الثاني أي فلا تخافوهم فتقعُدوا عن القتال وتجبُنوا وخافوني فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى ما يأمُركم به. والخطابُ لفريقَي الخارجين والقاعدين، والفاءُ لترتيب النهي أو الانتهاءِ على ما قبلَها فإن كونَ المَخوفِ شيطاناً مما يوجب عدمَ الخوفِ والنهي عنه { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فإن الإيمانَ يقتضي إيثارَ خوفِ الله تعالى على خوف غيرِه ويستدعي الأمنَ من شر الشيطانِ وأوليائِه.

{ وَلاَ يَحْزُنكَ } تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتشريفه بتخصيصه بالتسلية والإيذانِ بأصالته في تدبـير أمورِ الدينِ والاهتمامِ بشؤونه { ٱلَّذِينَ يُسَـٰرِعُونَ فِى ٱلْكُفْرِ } أي يقعون فيه سريعاً لغاية حرصِهم عليه وشدةِ رَغبتِهم فيه، وإيثارُ كلمةِ { فِى } على ما وقع في قوله تعالى: { { وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ } [آل عمران، الآية 133] الآية، للإشعار باستقرارهم في الكفر ودوام ملابستهم له في مبدأ المسارعة ومنتهاها كما في قوله تعالى: { أُوْلَـئِكَ يُسَـٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرٰتِ } فإن ذلك مؤذِنٌ بملابستهم للخيرات وتقلّبِهم في فنونها في طرفي المسارعةِ وتضاعيفِها، وأما إيثار كلمة { إِلَىٰ } في قوله تعالى: { وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ } [المؤمنون، الآية 61] الخ، فلأن المغفرةَ والجنةَ منتهىٰ المسارعةِ وغايتُها، والمرادُ بالموصول المنافقون من المتخلفين وطائفةٌ من اليهود حسبما عُيِّن في قوله تعالى: { يأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْوٰهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هِادُواْ } [المائدة، الآية 41] وقيل: قوم ارتدوا عن الإسلام، والتعبـيرُ عنهم بذلك للإشارة بما في حيز الصلةِ إلى مَظِنة وجودِ المنهيِّ عنه واعترائِه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي لا يَحْزُنوك بمسارعتهم في الكفر ومبادرتِهم إلى تنفيذ أحكامِه ومُظاهرتِهم لأهله، وتوجيهُ النهي إلى جهتهم مع أن المقصودَ نهيُه عليه الصلاة والسلام عن التأثر منهم للمبالغة في ذلك لما أن النهيَ عن التأثير نهيٌ عن التأثّر بأصله ونفيٌ له بالمرة، وقد يُوجِّه النهيُ إلى اللازم والمرادُ هم النهيُ عن الملزوم كما في قولك: لا أُرَينّك هٰهنا.

وقُرىء لا يُحزِنْك من أحزن المنقولِ من حزِن بكسر الزاء، والمعنى واحدٌ، وقيل: معنى حزَنه جعل فيه حُزْناً كما في دهَنه أي جعل فيه دُهْناً ومعنى أحزنه جعله حزيناً، وقيل: معنى حزَنه أحدث له الحزَن ومعنى أحزنه عرَّضه للحُزْن.

{ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ ٱللَّهَ } تعليلٌ للنهي وتكميلٌ للتسلية بتحقيق نفيِ ضررِهم أبداً، أي لن يضروا بذلك أولياءَ الله البتةَ، وتعليقُ نفي الضررِ به تعالى لتشريفهم والإيذانِ بأن مُضارَّتَهم بمنزلة مضارَّتِه سبحانه، وفيه مزيدُ مبالغةٍ في التسلية، وقوله تعالى: { شَيْئاً } في حيز النصبِ على المصدرية أي شيئاً من الضرر، والتنكيرُ لتأكيد ما فيه من القلة والحقارةِ، وقيل: على نزع الجارِّ أي بشيء ما أصلاً، وقيل: المعنى لن يَنقصُوا بذلك من مُلكه تعالى وسلطانِه شيئاً كما روىٰ أبو ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تعالى: لو أنَّ أولَكم وآخِرَكم وجِنّكم وإنسَكُم كانوا على قلب أتقى رجُلٍ منكم ما زادَ ذلكَ في مُلكي شيئاً. ولو أنَّ أولَكم وآخرَكم وجنَّكُم وإنسَكُم كانوا على قلب أفجرِ رجلٍ منكم ما نَقَصَ ذلكَ من مُلكي شيئاً" والأولُ هو الأنسبُ بمقام التسليةَ والتعليل.

{ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن لا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى ٱلآخِرَةِ } استئنافٌ مبـينٌ لسرّ ابتلائهم بما هم فيه من انهماكٍ في الكفر، وفي ذكر الإرادةِ ــ من الإيذان بكمال خلوصِ الداعي إلى حرمانهم وتعذيبِهم حيث تعلّقت بهما إرادةُ أرحمِ الراحمين ما لا يخفى، وصيغةُ الاستقبالِ للدِلالة على دوام الإرادةِ واستمرارِها، أي يريد الله بذلك أن لا يجعلَ لهم في الآخرة حظاً ما من الثواب ولذلك تركهم في طغيانهم يعمهون إلى أن يهلِكوا على الكفر { وَلَهُمْ } مع ذلك الحِرمانِ الكلي { عَذَابٌ عظِيمٌ } لا يقادَرُ قدرُه، قيل: لمّا دلت المسارعةُ في الشيء على عِظَم شأنِه وجلالةِ قدرِه عند المسارِعِ وُصف عذابُه بالعِظَم رعايةً للمناسبة وتنبـيهاً على حقارة ما سارعوا فيه وخساستِه في نفسه، والجملةُ إما مبتدَأةٌ مبـيِّنةٌ لحظهم من العقاب إثرَ بـيانِ أن لا شيءَ لهم من الثواب، وإما حالٌ من الضمير في لهم أي يريد الله حِرمانَهم من الثواب مُعدّاً لهم عذابٌ عظيم.