التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
١٩١
-آل عمران

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ } الموصولُ إما موصولٌ بأولي الألباب مجرورٌ على أنه نعتٌ كاشفٌ له بما في حيز الصلةِ وإما مفصولٌ عنه مرفوعٌ أو منصوبٌ على المدح، أو مرفوعٌ على أنه خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ، وقيل: هو مرفوعٌ على الابتداء والخبرُ هو القولُ المقدرُ قبل قولِه تعالى: { رَبَّنَا }، وفيه من تفكيك النظمِ الجليلِ ما لا يخفى. وأياً ما كان فقد أشير بما في حيز صلتِه أن المرادَ بهم الذين لا يغفُلون عنه تعالى في عامة أوقاتِهم لاطمئنان قلوبِهم بذكره واستغراقِ سرائرِهم في مراقبته لما أيقنوا بأن كلَّ ما سواه فائضٌ منه وعائدٌ إليه فلا يشاهدون حالاً من الأحوال في أنفسهم، وإليه أشير بقوله عز وجل: { قِيَـٰماً وَقُعُوداً وعَلَىٰ جُنُوبُهُمْ } ولا في الآفاق وإليه أشير بما بعده إلا وهم يعاينون في ذلك شأناً من شؤونه تعالى، فالمرادُ به ذكرُه تعالى مطلقاً سواءٌ كان ذلك من حيث الذاتُ أو من حيث الصفاتُ والأفعالُ، وسواءٌ قارنه الذكرُ اللسانيُّ أو لا.

وأما ما يُحكى عن ابن عمرَ وعروةَ بنِ الزبـير وجماعةٍ رضي الله عنهم من أنهم خرجوا يوم العيدِ إلى المصلىٰ فجعلوا يذكرون الله تعالى فقال بعضُهم: أما قال الله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً } [آل عمران، الآية 191] فقاموا يذكرون الله على أقدامهم فليس مرادُهم به تفسيرَ الآيةِ وتحقيقَ مِصداقِها على التعيـين وإنما أرادوا به التبركَ بنوع موافقةٍ لها في ضمن الإتيانِ بفرد من أفرادِ مدلولِها، وأما حملُ الذكرِ على الصلاة في هذه الأحوالِ حسب الاستطاعةِ كما "قال عليه السلام لعِمرانَ بنِ الحصين: صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطعْ فعلى جنب تومىء إيماءً" فمما لا يساعده سباقُ النظمِ الجليلِ ولا سياقُه.

والقيامُ والقعودُ جمعُ قائمٍ وقاعدٍ كنيام ورُقودٍ جمعُ نائمٍ وراقد، وانتصابُهما على الحالية من ضمير يذكرُون أي يذكرونه قائمين وقاعدين، وقولُه تعالى: { وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ } متعلقٌ بمحذوف معطوفٍ على الحالين أي وكائنين على جنوبهم أي مضطجعين، والمرادُ تعميمُ الذكرِ للأوقات كما مر، وتخصيصُ الأحوالِ المذكورةِ بالذكر ليس لتخصيص الذكرِ بها بل لأنها الأحوالُ المعهودةُ التي لا يخلو عنها الإنسانُ غالباً { وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } عطفٌ على { يَذكرُونَ } منتظمٌ معه في حيِّز الصلةِ فلا محلَّ له من الإعراب، وقيل: محلُّه النصبُ على أنه معطوفٌ على الأحوال السابقةِ وليس بظاهر، وهو بـيانٌ لتفكرهم في أفعاله سبحانه إثرَ بـيانِ تفكرِهم في ذاته تعالى على الإطلاق وأشار إلى نتيجته التي يؤدّي إليها من معرفة أحوالِ المعادِ حسبما نطقت به ألسنةُ الرسلِ وآياتُ الكتبِ، فكما أنها آياتٌ تشريعيةٌ هاديةٌ للخلق إلى معرفته تعالى ووجوبِ طاعتِه كذلك المخلوقاتُ آياتٌ تكوينيةٌ مرشدةٌ لهم إلى ذلك، فالأُولى منبِّهاتٌ لهم على الثانية ودواعٍ إلى الاستشهاد بها كهذه الآيةِ الكريمةِ ونحوِها مما ورد في مواضعَ غيرِ محصورةٍ من التنزيل، والثانيةُ مؤيِّداتٌ للأولى وشواهدُ دالةٌ على صحة مضمونِها وحقّيةِ مكنونِها، فإن من تأمل في تضاعيف خلقِ العالَمِ على هذا النمطِ البديعِ قضىٰ باتصاف خالقِه تعالى بجميع من نطقت به الرسلُ والكتبُ من الوجوب الذاتيِّ والوَحدةِ الذاتيةِ والمُلك القاهِرِ والقُدرةِ التامةِ والعلمِ الشاملِ والحِكمةِ البالغةِ وغيرِ ذلك من صفات الكمالِ، وحكمَ بأن مَن قدَر على إنشائه بلا مثال يِحتذيه أو قانونٍ ينتحيه فهو على إعادته بالبعث أقدرُ، وحكمَ بأن ذلك ليس إلا لحكمة باهرةٍ هي جزاءُ المكلَّفين بحسب استحقاقِهم المنوطِ بأعمالهم أي علومِهم واعتقاداتِهم التابعةِ لأنظارهم فيما نُصب لهم من الحُجج والدلائلِ والأَماراتِ والمَخايلِ وسائرِ أعمالِهم المتفرّعةِ على ذلك، فإن العملَ غيرُ مختصَ بعمل الجوارحِ بل متناولٌ للعمل القلبـيِّ، وهو أشرفُ أفراده لما أن لكلٍ من القلب والقالَب عملاً خاصاً.

ومن قضية كونِ الأولِ أشرفَ من الثاني كونُ عملِه أيضاً أشرفَ من عملِه، كيف لا، ولا عملَ بدون معرفتِه تعالى التي هي أولُ الواجباتِ على العباد، والغايةُ القُصوى من الخلق على ما نطَق به عز وجل: { { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات، الآية 56] أي ليعرفونِ كما أَعرَب عنه قولُه عليه الصلاة والسلام: "يقول الله تعالى: كُنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أُعْرَفَ فخلقتُ الخلقَ لأُعرف" وإنما طريقُها النظرُ والتفكرُ فيما ذُكر من شؤونه تعالى. وقد روي عنه عليه السلام أنه قال: "لا تُفضِّلوني على يونسَ بنِ متى فإنه كان يُرفع له كلَّ يومٍ مثلُ عملِ أهلِ الأرض" .

قالوا: وإنما كان ذلك التفكّرَ في أمر الله تعالى ولذلك قال عليه السلام: "لا عبادةَ مثلُ التفكر" وقد عرفت أنه مستتبِعٌ لتحقيق ما جاءت به الشريعةُ الحقةُ، وإلا لما فسَّر النبـي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: { { وَهُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [هود، الآية 7] بقوله عليه الصلاة والسلام: "أيُكم أحسنُ عقلاً وأورَعُ عن محارم الله تعالى" فإن التورعَ عن محارمه سبحانه موقوفٌ على معرفة الحلالِ والحرامِ المنوطةِ بالكتاب والسنة، فحينئذ تتصادقُ الآياتُ التكوينيةُ وتتوافق الأدلةُ السمعيةُ والعقليةُ وهو السرُّ في نظم ما حُكي عن المتفكرين من الأمور المستدعِيةِ للإيمان بالشريعة في سلك نتيجةِ تفكُّرِهم كما ستقف عليه.

وإظهارُ خلقِ السمواتِ والأرضِ ــ مع كفاية الإضمارِ لإبراز كمالِ العنايةِ ببـيان حالِهم، والإيذانِ بكون تفكرِهم على وجه التحقيقِ والتفصيلِ وعدمِ التعرضِ لإدراج اختلافِ المَلَوْينِ في سلك التفكر مع ذكره فيما سلف ــ إما للإيذان بظهور اندراجِه فيه لما أن ذلك من الأحوال التابعةِ لأحوال السمواتِ والأرضِ كما أشير إليه، وإما للإشعار بمسارعتهم إلى الحُكم بالنتيجة بمجرد تفكرِهم في بعض الآياتِ من غير حاجةٍ إلى بعض آخَرَ منها في إثبات المطلوب. والخلقُ مصدرٌ على حاله أي يتفكرون في إنشائهما وإبداعِهما بما فيهما من عجائبِ المصنوعات، وقيل: بمعنى المخلوقِ على أن الإضافةَ بمعنى في ــ أي يتفكرون فيما خُلق فيهما ــ أعمُّ من أن يكون بطريق الجزئيةِ منهما أو بطريق الحلولِ فيهما أو على أنها بـيانية.

{ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً } كلمةُ { هَـٰذَا } إشارةٌ إلى السموات والأرضِ متضمّنةٌ لضرب من التعظيم كما في قوله تعالى: { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } [الإسراء، الآية 9] والتذكيرُ لما أنهما باعتبار تعلّقِ الخلقِ بهما في معنى المخلوقِ، أو إلى الخلق على تقدير كونِه بمعنى المخلوقِ، و{ بَـٰطِلاً } إما صفةٌ لمصدر مؤكدٍ محذوفٍ أو حالٌ من المفعول به، أي ما خلقتَ هذا المخلوقَ البديعَ العظيمَ الشأنِ عبثاً عارياً عن الحكمة خالياً عن المصلحة كما تُنبىء عنه أوضاعُ الغافلين عن ذلك، المعرِضين عن التفكر فيه، بل منتظِماً لحكمة جليلةٍ ومصالحَ عظيمةٍ من جملتها أن يكون مداراً لمعايش العبادِ ومناراً يُرشدهم إلى معرفة أحوالِ المبدأ والمعادِ حسبما أَفْصحت عنه الرسلُ والكتبُ الإلٰهيةُ كما تحققتَه مفصلاً.

والجملة بتمامها في حيز النصبِ بقولٍ مقدرٍ هو ــ على تقدير كونِ الموصولِ نعتاً لأولي الألباب ــ استئنافٌ مبـينٌ لنتيجة التفكرِ ومدلولِ الآياتِ، ناشىءٌ مما سبق فإن النفسَ عند سماعِ تخصيصِ الآياتِ المنصوبةِ في خلق العالمِ بأولي الألباب ثم وصفَهم بذكر الله تعالى والتفكرِ في محالِّ تلك الآياتِ تبقى مترقبةً لما يظهر منهم من آثارها وأحكامِها، كأنه قيل: فماذا يكونُ عند تفكرِهم في ذلك وماذا يترتب عليه من النتيجة؟ فقيل: كيتَ وكيتَ مما ينبىء عن وقوفهم على سر الخلقِ المؤدِّي إلى معرفة صدقِ الرسلِ وحقية الكُتب الناطقةِ بتفاصيل الأحكامِ الشرعيةِ على التفصيل الذي وقفت عليه. هذا وأما جعلُه حالاً من المستكنِّ في الفعل كما أطبق عليه الجمهورُ فمما لا يساعده جزالةُ النظمِ الكريمِ لما أن ما في حيز الصلةِ وما هو قيدٌ له حقُّه أن يكون من مبادىء الحُكمِ الذي أُجريَ على الموصول ودواعي ثبوته له، كذكرهم الله عز وجل في عامة أوقاتِهم وتفكرِهم في خلق السموات والأرض، فإنهما مما يؤدي إلى اجتلاء تلك الآياتِ والاستدلالِ بها على المطلوب، ولا ريب في أن قولَهم ذلك ليس من مبادىء الاستدلال المذكورِ بل من نتائجه المترتبةِ عليه فاعتبارُه قيداً لما في حيز الصلةِ مما لا يليق بشأن التنزيلِ الجليلِ. نعم هو حال من ذلك على تقدير كونِ الموصولِ مرفوعاً أو منصوباً على المدح، أو مرفوعاً على أنه خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ إذ لا اشتباهَ في أن قولَهم ذلك مبادىءُ مدحِهم ومحاسنُ مناقبهم، وفي إبراز هذا القولِ في معرض الحالِ دون الخبرِ إشعارٌ بمقارنته لتفكرهم من غير تلعثم وترددٍ في ذلك.

وقوله تعالى: { سُبْحَـٰنَكَ } أي تنزيهاً لك عما لا يليق بك من الأمور التي من جملتها خلقُ ما لا حكمةَ فيه اعتراضٌ مؤكدٌ لمضمون ما قبله ممهّد لما بعده من قوله تعالى: { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } فإن معرفةَ سرِّ خلقِ العالمِ وما فيه من الحكمةِ البالغةِ والغايةِ الحميدةِ والقيامَ بما تقتضيه من الأعمال الصالحةِ وتنزيهَ الصانعِ تعالى عن العبث ــ من دواعي الاستعاذة مما يَحيق بالمُخلِّين بذلك من وجهين: أحدُهما الوقوفُ على تحقق العذابِ فالفاءُ لترتيب الدعاءِ على ما ذُكر والثاني الاستعدادُ لقبول الدعاءِ، فالفاءُ لترتيب المدعوِّ أعني الوقايةَ على ذلك كأنه قيل: وإذ قد عرَفنا سرَّك وأطعنا أمرَك ونزّهناك عما لا ينبغي فقِنا عذابَ النارِ الذي هو جزاءُ الذين لا يعرِفونك ذلك.