التفاسير

< >
عرض

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٣٧
-آل عمران

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ فَتَقَبَّلَهَا } أي أخذ مريمَ ورضيَ بها في النذر مكانَ الذكَر { رَبُّهَا } مالكها ومُبلِّغها إلى كمالها اللائق بها وفيه من تشريفَها ما لا يخفى { بِقَبُولٍ حَسَنٍ } قيل: الباء زائدة والقَبول مصدرٌ مؤكِّد للفعل السابق بحذف الزوائد أي تقبّلها قبولاً حسناً وإنما عدَلَ عن الظاهر للإيذان بمقارنة التقبُّل لكمال الرضا وموافقته للعناية الذاتية فإن صيغة التفعُّل مُشعِرةٌ بحسب أصل الوضعِ بالتكليف، وكونِ الفعل على خلاف طبع الفاعل وإن كان المرادُ بها في حقه تعالى ما يترتب عليه من كمال قوةِ الفعل وكثرتِه وقيل: القبولُ ما يقبل به الشيء كالسَّعوط واللَّدود لما يُسعَط به ويلُدّ، وهو اختصاصُه تعالى إياها بإقامتها مُقام الذكَر في النَّذر، ولم تُقبلْ قبلها أنثى أو بأنْ تُسلِّمها أمُّها عَقيبَ الولادة قبل أن تنشأ وتصلُحَ للسِّدانة. روي أن حنة حين ولدتها، لفّتها في خرقة، وحملتْها إلى بـيت المقدس، ووضعتها عند الأحبار أبناءِ هارونَ وهم في بـيت المقدس كالحَجَبة في الكعبة فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنتَ إمامِهم، وصاحبِ قُربانهم، فإن بني ماثانَ كانت رؤوسَ بني إسرائيلَ وملوكَهم، وقيل: لأنهم وجدوا أمرَها وأمرَ عيسى عليه الصلاة والسلام في الكتب الإلٰهية فقال زكريا عليه الصلاة والسلام: «أنا أحقُّ بها لأن عندي خالتَها» فأبوا إلا القُرْعةَ، وكانوا سبعةً وعشرين، فانطلقوا إلى نهر فألقَوْا فيه أقلامَهم فطفا قلمُ زكريا ورسبَتْ أقلامُهم فتكفلها. وقيل: هو مصدر وفيه مضافٌ مقدرٌ أي فتقبلها بذي قبولٍ أي بأمرٍ ذي قَبول حسن، وقيل: تقبّل بمعنى استقبل كتقصَّى بمعنى استقصىٰ وتعجَّل بمعنى استعجل أي استقبلها في أول أمرِها حين وُلدت بقبول حسن { وَأَنبَتَهَا } مجازٌ عن تربـيتها بما يُصلِحها في جميع أحوالها { نَبَاتًا حَسَنًا } مصدر مؤكّدٌ للفعل المذكور بحذف الزوائد وقيل: بل لفعل مُضمر موافقٍ له تقديرُه فنبتت نباتاً حسناً { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } أي جعله عليه الصلاة والسلام كافلاً لها وضامناً لمصالحها قائماً بتدبـير أمورِها لا على طريقة الوحي بل على ما ذُكر من التفصيل فإن رغبتَه عليه الصلاة والسلام في كفالتها وطُفوَّ قلمِه ورسوبَ أقلامِهم وغيرَ ذلك من الأمور الجارية بـينهم كلُّها من آثار قدرته تعالى، وقرىء أَكفلَها وقرىء زكرياءَ بالنصب والمد وقرىء بتخفيف الفاء وكسرِها ورفع زكرياءُ ممدوداً وقرىء وتقبَّلْها ربَّها وأنبِتْها وكفَّلْها على صيغة الأمر في الكل ونصبِ ربها على الدعاء أي فاقبلها يا ربها وربِّها تربـيةً حسنةً واجعلْ زكريا كافلاً لها فهو تعيـينٌ لجهة التربـية. قيل: بنىٰ عليه الصلاة والسلام لها مِحْراباً في المسجد أي غرفةً يُصعد إليها بسُلّم وقيل: المحرابُ أشرفُ المجالس ومُقدَّمُها كأنها وضعت في أشرف موضعٍ من بـيت المقدس وقيل: كانت مساجدُهم تسمى المحاريب. روي أنه كان لا يدخل عليها إلا هو وحده وإذا خرج غلّق عليها سبعة أبواب { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ } تقديمُ الظرف على الفاعل لإظهار كمالِ العناية بأمرِها ونصبُ المحراب على التوسّع وكلمة { كُلَّمَا } ظرف على أن ما مصدرية والزمان محذوف، أو نكرةٌ موصوفة معناها الوقتُ والعائد محذوفٌ والعامل فيها جوابُها أي كلَّ زمانِ دخولِه عليها أو كلَّ وقتٍ دخل عليها فيه { وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا } أي نوعاً منه غيرَ معتاد إذ كان ينزل ذلك من الجنة. وكان يجد عندها في الصيف فاكهةَ الشتاء وفي الشتاء فاكهةَ الصيف ولم ترضَعْ ثدياً قط { قَالَ } استئنافٌ مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قال زكريا عليه الصلاة والسلام عند مشاهدةِ هذه الآية؟ فقيل قال: { قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } أي من أين جاء لك هذا الذي لا يُشبه أرزاقَ الدنيا والأبوابُ مغلقةٌ دونك؟ وهو دليل على جواز الكرامةِ للأولياء ومن أنكرها جعلَ هذا إرهاصاً وتأسيساً لرسالة عيسى عليه الصلاة والسلام، وأما جعلُه معجزةً لزكريا عليه الصلاة والسلام فيأباه اشتباهُ الأمر عليه، عليه السلام، وإنما خاطبها عليه الصلاة والسلام بذلك مع كونها بمعزلٍ من رتبة الخطاب لما علم بما شاهده أنها مؤيَّدةٌ من عند الله تعالى بالعلم والقدرة { قَالَتْ } استئناف كما قبله كأنه قيل: فماذا صنعت مريمُ وهي صغيرة لا قدرة لها على فهم السؤال ورد الجواب؟ فقيل قالت: { هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } فلا تعجبْ ولا تستبعد { إنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء } أن يرزُقَه { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي بغير تقدير لكثرته أو بغير استحقاقٍ تفضلاً منه تعالى وهو تعليل لكونه من عند الله إما من تمام كلامِها فيكونُ في محل النصب وإما من كلامه عز وجل فهو مستأنفٌ، روي "أن فاطمة الزهراءَ رضي الله عنها أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغيفين وبضعةَ لحم فرجع بها إليها فقال: هلُمّي يا بنية فكشف عن الطبق فإذا هو مملوءٌ خبزاً ولحماً فقال لها: أنى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فقال عليه الصلاة والسلام: الحمدُ لله الذي جعلك شبـيهةً بسيدة بني إسرائيلَ، ثم جمع علياً والحسنَ والحسينَ وجميعَ أهلِ بـيته رضوانُ الله عليهم أجمعين فأكلوا وشبِعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت على جيرانها" .