التفاسير

< >
عرض

قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ
٤٠
-آل عمران

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ قَالَ } استئناف مبني عن السؤال كأنه قيل: فماذا قال زكريا عليه السلام حينئذ؟ فقيل قال: { رَبّ } لم يخاطِب الملَكَ المناديَ له بملابسة أنه المباشرُ للخطاب وإن كان ذلك بطريق الحكاية عنه تعالى بل جرى نهجُ دعائه السابق مبالغةً في التضرع والمناجاة وجِدّاً في التبتل إليه تعالى واحترازاً عما عسى يوهم خطابُ الملَكِ من توهّم أن علمه سبحانه بما يصدُر عنه يتوقف على توسّطه كما يتوقف وقوفُ البشر على ما يصدر عنه سبحانه على توسّطه في عامة الأحوال وإن لم يتوقف عليه في بعضها { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَـٰمٌ } فيه دَلالةٌ على أنه قد أخبر بكونه غلاماً عند التبشير كما في قوله تعالى: { إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلَـٰمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ } [مريم، الآية 7] وأنىٰ بمعنى كيف أو من أين وكان تامة وأنى واللام متعلقتان بها وتقديمُ الجارِّ على الفاعل لما مر مراراً من الاعتناء بما قُدم والتشويقِ إلى ما أُخر، أي كيف أو من أين يحدُث لي غلام ويجوزُ أن تتعلق اللامُ بمحذوف وقع حالاً من غلام إذ لو تأخر لكان صفة له، أو ناقصة واسمُها ظاهرٌ وخبرها إما أنى واللام متعلقة بمحذوف كما مر أو هو الخبر وأنى منصوب على الظرفية { وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ } حال من ياء المتكلم أي أدركني كِبَرُ السِّنِّ وأثّر فيَّ، كقولهم: أدركته السنُّ وأخذته السن، وفيه دلالةٌ على أن كبرَ السن من حيث كونُه من طلائع الموت طالبٌ للإنسان لا يكاد يتركه، قيل: كان له تسعٌ وتسعون سنة، وقيل: اثنتان وتسعون، وقيل: مائة وعشرون، وقيل: ستون، وقيل: خمس وستون، وقيل: سبعون، وقيل: خمس وسبعون، وقيل: خمس وثمانون ولامرأته ثمانٍ وتسعون { وَٱمْرَأَتِى عَاقِرٌ } أي ذاتُ عُقر وهو أيضاً حال من الياء في لي عند من يجوز تعدد الحال أو من ياء { بَلَغَنِي } أي كيف يكون لي ذلك والحال أني وامرأتي على حالة منافية له كلَّ المنافاة وإنما قاله عليه الصلاة والسلام مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله تعالى عليه لا سيما بعد مشاهدته عليه الصلاة والسلام للشواهد السالفة استعظاماً لقدرة الله سبحانه وتعجيباً منها واعتداداً بنعمته عز وجل عليه في ذلك لا استبعاداً له وقيل: بل كان ذلك للاستبعاد حيث كان بـين الدعاء والبشارة ستون سنةً وكان قد نسِيَ دعاءَه وهو بعيد، وقيل: كان ذلك استفهاماً عن كيفية حدوثه { قَالَ } استئناف كما سلف { كَذٰلِكَ } إشارةٌ إلى مصدر { يَفْعَلُ } في قوله عز وجل: { ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء } أي ما يشاء أن يفعلَه من عجيب الأفاعيل الخارقةِ للعادات فالله مبتدأ ويفعل خبره والكاف في محل النصب على أنها في الأصل نعتٌ لمصدر محذوف أي الله يفعل ما يشاء أن يفعله فعلاً مثلَ ذلك الفعل العجيبِ والصنعِ البديعِ الذي هو خلقُ الولد من شيخٍ فانٍ وعجوزٍ عاقر، فقُدِّم على العامل لإفادة القصر بالنسبة إلى ما هو أدنى من المشار إليه، واعتبرت الكافُ مقحمةً لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارة من الفخامة وقد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى: { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [البقرة، الآية 143] أو على أنها حال من ضمير المصدرِ المقدر معرِفةٌ أي يفعل ما يشاء بـيانٌ لذلك الشأن المبهم أو كذلك خبرٌ لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وقوله تعالى: { ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء } [آل عمران، الآية 40] بـيانٌ له.