التفاسير

< >
عرض

يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسْجُدِي وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ
٤٣
ذٰلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ
٤٤
-آل عمران

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ ياَ مَرْيَمُ } تكريرُ النداءِ للإيذان بأن المقصودَ بالخطاب ما يرِدُ بعده وأن ما قبله من تذكير النِعم كان تمهيداً لذِكره وترغيباً في العمل بموجبه { ٱقْنُتِى لِرَبّكِ } أي قومي في الصلاة أو أطيلي القيام فيها له تعالى، والتعرضُ لعنوان ربوبـيته تعالى لها للإشعار بعلة وجوبِ الامتثالِ بالأمر { وَٱسْجُدِى وَٱرْكَعِى مَعَ ٱلركِعِينَ } أُمِرت بالصلاة بالجماعة بذكر أركانها مبالغةً في إيجاب رعايتها وإيذاناً بفضيلة كلَ منها وأصالتِه، وتقديمُ السجود على الركوع إما لكون الترتيب في شريعتهم كذلك وإما لكون السجودِ أفضلَ أركانِ الصلاة وأقصى مراتبِ الخضوع، ولا يقتضي ذلك كونَ الترتيب الخارجيِّ كذلك بل اللائقُ به الترقي من الأدنىٰ إلى الأعلى وإما لِيَقْترِن اركعي بالراكعين للإشعار بأن من لا ركوعَ في صلاتهم ليسوا مصلّين. وأما ما قيل من أن الواوَ لا توجب الترتيبَ فغايتُه التصحيحُ لا الترجيح، وتجريدُ الأمر بالرُكنين الأخيرين عما قُيِّد به الأولُ لما أن المراد تقيـيدُ الأمر بالصلاة بذلك وقد فعل حيث قيد به الركن الأول منها، وقيل: المرادُ بالقنوت إدامةُ الطاعات كما في قوله تعالى: { { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ٱلَّيْلِ سَـٰجِداً وَقَائِماً } [الزمر، الآية 9] وبالسجود الصلاةُ لما مر من أنه أفضلُ أركانها وبالركوع الخشوعُ والإخباتُ، قيل: لمّا أُمِرَت بذلك قامت في الصلاة حتى ورِمَتْ قدَماها وسالت دماً وقيحاً { ذٰلِكَ } إشارةٌ إلى ما سلف من الأمور البديعة، وما فيه من معنى البعد للتنبـيه على علوِّ شأنِ المشارِ إليه وبُعد منزلتِه في الفضل، وهو مبتدأ خبرُه قوله تعالى: { مِنْ أَنبَاء ٱلْغَيْبِ } أي من الأنباء المتعلقةِ بالغيب، والجملةُ مستأنفةٌ لا محل لها من الإعراب وقوله تعالى: { نُوحِيهِ إِلَيْكَ } جملةٌ مستقلة مبـينةٌ للأولى وقيل: الخبرُ هو الجملة الثانية و{ مِنْ أَنبَاء ٱلْغَيْبِ } إما متعلق بنوحيه أو حال من ضميره أي نوحي من أنباء الغيب أو نوحيه حال كونه من جملة أنباء الغيب وصيغةُ الاستقبال للإيذان بأن الوحيَ لم ينقطعْ بعد { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } أي عند الذين اختلفوا وتنازعوا في تربـية مريمَ وهو تقريرٌ وتحقيق لكونه وحياً على طريقة التهكم بمُنكِريه كما في قوله تعالى: { { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِىّ } [القصص، الآية: 44] الآية { { وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ } [القصص، الآية: 45] الآية، فإن طريقَ معرفةِ أمثالِ هاتيك الحوادثِ والواقعات إما المشاهدةُ وإما السماعُ، وعدمُه محققٌ عندهم فبقيَ احتمالُ المعاينة المستحيلةِ ضرورةً فنُفِيَت تهكماً بهم { إِذْ يُلْقُون أَقْلَـٰمَهُمْ } ظرفٌ للاستقرار العامل في لديهم و{ أَقْلَـٰمَهُمْ } أقداحُهم التي اقترعوا بها وقيل: اقترعوا بأقلامهم التي كانوا يكتُبون بها التوراة تبركاً { أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } متعلقٌ بمحذوف دلَّ عليه { يُلْقُون أَقْلَـٰمَهُمْ } أي يُلْقونها ينْظرون أو ليعلموا أيُّهم يكفلها { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } أي في شأنها تنافُساً في كفالتها حسبما ذكر فيما سبق. وتكريرُ ما كنت لديهم مع تحقق المقصودِ بعطف { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } على إذ يُلقون كما في قوله عز وجل: { { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ } [الإسراء، الآية 47] للدِلالة على أن كلَّ واحدٍ من عدم حضورِه عليه السلام عند إلقاءِ الأقلام وعدمِ حضوره عند الاختصام مستقلٌ بالشهادة على نبوَّته عليه السلام لا سيما إذا أريد باختصامهم تنازعُهم قبل الاقتراعِ فإن تغيـيرَ الترتيبِ في الذكر مؤكدٌ له.