التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
٣
لِّيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
٤
-سبأ

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ } أرادوا بضمير المُتكلِّمِ جنسَ البشر قاطبةً لا أنفسَهم أو معاصريهم فقط كما أرادُوا بنفيِ إتيانها نفيَ وجودِها بالكُلِّيةِ لا عدمَ حضورِها مع تحقُّقها في نفس الأمر وإنما عبَّروا عنه بذلك لأنَّهم كانوا يُوعدون بإتيانها ولأنَّ وجود الأمور الزَّمانيةِ المُستقبلةِ لا سيَّما أجزاءُ الزَّمانِ لا يكون إلا بالإتيانِ والحضورِ، وقيل: هو استبطاءٌ لإتيانها الموعودِ بطريق الهُزءِ والسُّخريةِ كقولهم: متى هذا الوعدُ { قُلْ بَلَىٰ } ردٌّ لكلامِهم وإثباتٌ لِما نفَوه على معنى ليسَ الأمرُ إلاَّ إتيانَها. وقولُه تعالى: { وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ } تأكيدٌ له على أتمِّ الوجوهِ وأكملِها. وقُرىء ليأتينَّكم على تأويل السَّاعةِ باليَّومِ أو الوقتِ وقوله تعالى: { عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ } الخ، إمداد للتَّأكيدِ وتسديدٌ له إثرَ تسديدٍ وكسر لسَورةِ نكيرِهم واستبعادهم فإنَّ تعقيب القسم بجلائل نُعوت المُقسَمِ بهِ على الإطلاق يُؤذنُ بفخامة شأنِ المُقْسَمِ عليه وقوَّةِ ثباته وصحَّتِه لما أنَّ ذلك في حكمِ الاستشهادِ على الأمرِ ولا ريب في أن المستشهدَ به كلَّما كان أجلَّ وأعلى كانتِ الشَّهادةُ آكدَ وأقوى والمستشهدُ عليه أحقَّ بالثُّبوتِ وأولى لا سيَّما إذا خُصَّ بالذِّكرِ من النُّعوتِ ما له تعلُّقٌ خاصٌّ بالمُقسَمِ عليه كما نحنُ فيهِ فإنَّ وصفَه بعلم الغيب الذي أشهرُ أفرادِه وأدخلُها في الخفاء هو المقسمُ عليهِ تنبـيه لهم على علَّةِ الحكم وكونه ممَّا لا يحومُ حوله شائبةُ ريبٍ ما، وفائدة الأمر بهذه المرتبة من اليمين أنْ لا يبقى للمعاندينَ عذرٌ ما أصلاً فإنَّهم كانوا يعرفون أمانتَه ونزاهتَه عن وصمةِ الكذب فضلاً عن اليمين الفاجرةِ وإنَّما لم يُصدِّقُوه مكابرةً. وقُرىء علاَّمُ الغيبِ وعالمُ الغيبِ وعالمُ الغُيوبِ بالرَّفعِ على المدحِ { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ } أي لا يبعدُ. وقُرىء بكسرِ الزَّايِ { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } مقدارُ أصغرِ نملةٍ { فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَلاَ فِى ٱلأَرْضِ } أي كائنةٌ فيهما { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ } أي من مثقالِ ذرَّةٍ { وَلا أَكْبَرَ } أي منه. ورفعُهما على الابتداءِ والخبرُ قوله تعالى: { إِلاَّ فِى كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ } هو اللَّوحُ المحفوظُ. والجملةُ مؤكِّدةٌ لنفيِ العُزوبِ. وقُرىء ولا أصغرَ ولا أكبرَ بفتحِ الرَّاءِ على نفيِ الجنسِ ولا يجوزُ أن يُعطفَ المرفوعُ على مثقالُ ولا المفتوحُ على ذَرَّةٍ بأنَّه فتح في خبر الجرِّ لامتناع الصَّرفِ لما أنَّ الاستثناءَ يمنعه إلا أنْ يُجعلَ الضَّميرُ في عنه للغيب ويُجعلَ المثبتُ في اللَّوحِ خارجاً عنه لبروزه للمطالعينَ له فيكون المعنى لا ينفصلُ عن الغيب شيءٌ إلى مسطوراً في اللَّوحِ.

{ ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات } علَّةٌ لقوله تعالى: { لَتَأْتِيَنَّكُمْ } وبـيان لما يقتضي إتيانها { أُوْلَـٰئِكَ } إشارةٌ إلى الموصولِ من حيثُ اتِّصافُه بما في حيِّزِ الصِّلةِ، وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الفضلِ والشَّرفِ أي أولئك الموصوفون بالصِّفاتِ الجليلةِ { لَهُمْ } بسبب ذلك { مَغْفِرَةٌ } لما فَرَطَ منهم من بعض فَرَطاتٍ قلَّما يخلُو عنها البشرُ { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } لا تعبَ فيه ولا منَّ عليه.