التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً
١٠
يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا ٱلنِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ ٱلثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ ٱلسُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
١١
-النساء

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

وقوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ ظُلْماً } أي على وجه الظلمِ أو ظالمين، استئنافٌ جيء به لتقرير مضمونِ ما فُصِّل من الأوامر والنواهي { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ } أي ملءَ بطونِهم { نَارًا } أي ما يُجرُّ إلى النار ويؤدِّي إليها، وعن أبـي برزة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يبعث الله تعالى قوماً من قبورهم تتأجّج أفواهُهم ناراً فقيل: من هم؟ فقال عليه السلام: ألم تر أن الله يقول: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً }" { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } أي سيدخُلون ناراً هائلةً مبْهمةَ الوصفِ وقرىء بضم الياء مخففاً ومشدداً من الإصلاء والتصلية، يقال: صِليَ النار قاسي حرَّها وصلَيتُه وشويتُه وأصليتُه وصلّيتُه ألقيته فيها. والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعَرتُ النارَ إذا ألهبتُها. روي أن آكلَ مالِ اليتيم يبعث يوم القيامةِ والدخانُ يخرج من قبره ومِنْ فيه وأنفِه وأُذنيه وعينيه فيعرف الناسُ أنه كان يأكلُ مالَ اليتيمِ في الدنيا. وروي أنه لما نزلت هذه الآيةُ ثقُل ذلك على الناس فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية فصعب الأمرُ على اليتامى فنزل قوله تعالى: { وَإِن تُخَالِطُوهُمْ } [البقرة، الآية 220] الآية.

{ يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ } شروعٌ في تفصيل أحكامِ المواريثِ المُجملةِ في قوله تعالى: { { لّلرّجَالِ نَصِيبٌ } [النساء، الآية 7، 32] الخ، وأقسامُ الورثةِ ثلاثةٌ: قسمٌ لا يسقُط بحال وهو الآباءُ والأولادُ والأزواج فهؤلاء قسمانِ والثالثُ الكلالة. أي يأمركم ويعهَدُ إليكم { فِى أَوْلَـٰدِكُمْ } أولاد كلِّ واحدٍ منكم أي في شأن ميراثِهم. بُدىءَ بهم لأنهم أقربُ الورثةِ إلى الميتِ وأكثرُهم بقاءً بعد المورِّث { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ ٱلأُنْثَيَيْنِ } جملةٌ مستأنفةٌ جيء بها لتبـيـين الوصيةِ وتفسيرِها، وقيل: محلُّها النصبُ بـيوصيكم على أن المعنى يفرِض عليكم ويشرَع لكم هذا الحُكمَ، وهذا قريبٌ مما رآه الفراءُ فإنه يجري ما كان بمعنى القولِ من الأفعال مَجراه في حكاية الجملةِ بعدَه، ونظيرُه قولُه تعالى: { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ } [المائدة، الآية 9] الآية، وقولُه تعالى: { لِلذّكْرِ } لا بد له من ضمير عائدٍ إلى الأولاد محذوفٍ ثقةً بظهوره كما في قولهم: السمنُ مَنَوانِ بدرهم. أي للذكر منهم، وقيل: الألفُ واللامُ قائمٌ مقامَه، والأصلُ لذكرهم، ومِثلُ صفةٌ لموصوف محذوفٍ أي للذكر منهم حظُّ الأنثيـين، والبَداءةُ ببـيان حكمِ الذكرِ لإظهار مَزيّتِه على الأنثى، كما أنها المناطُ في تضعيف حظِّه، وإيثارُ اسمَي الذكرِ والأنثى على ما ذُكر أولاً من الرجال والنساءِ للتنصيص على استواء الكبارِ والصغارِ من الفريقين في الاستحقاق من غير دخلٍ للبلوغ والكِبَرِ في ذلك أصلاً كما هو زعمُ أهلِ الجاهليةِ حيث كانوا لا يورِّثون الأطفالَ كالنساء. { فَإِن كُنَّ } أي الأولادُ والتأنيثُ باعتبار الخبرِ وهو قوله تعالى: { نِسَاء } أي خُلَّصاً ليس معهن ذكرٌ { فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ } خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ لنساءً أي نساءً زائداتٍ على اثنتين { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } أي المُتوفىٰ المدلولُ عليه بقرينة المقامِ { وَإِن كَانَتْ } أي المولودةُ { وٰحِدَةٌ } أي امرأةً واحدةً ليس معها أخٌ ولا أختٌ. وعدمُ التعرّضِ للموصوف لظهوره مما سبق { فَلَهَا ٱلنّصْفُ } مما ترك، وقرىء واحدةٌ على كان التامة.

واختلف في الثنتين فقال ابنُ عباس: حكمُهما حكمُ الواحدةِ لأنه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما، وقال الجمهورُ: حكمُهما حكمُ ما فوقهما لأنه تعالى لما بـيّن أن حظَّ الذكرِ مثلُ حظِّ الأنثيـين إذا كان معه أنثى وهو الثلثان اقتضى ذلك أن فرضَهما الثلثان، ثم لما أوهم ذلك أن يُزاد النصيبُ بزيادة العددِ رُدَّ ذلك بقوله تعالى: { فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ } ويؤيد ذلك أن البنتَ الواحدةَ لما استحقَّت الثُلُثَ مع أخيها الأقوى منها في الاستحقاق فلأَنْ تستحِقَّه مع مثلها أولى وأحرى وأن البنتين أمسُّ رَحِماً من الأختين وقد فرض الله لهما الثلثين حيث قال تعالى: { فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ }.

{ وَلأَبَوَيْهِ } أي لأبوي الميت. غُيِّر النظمُ الكريمُ لعدم اختصاصِ حُكمِه بما قبله من الصور { لِكُلّ وٰحِدٍ مّنْهُمَا } بدلٌ منه بتكرير العاملِ، وُسِّط بـين المبتدأ الذي هو قوله تعالى: { ٱلسُّدُسُ } وبـين خبرِه الذي هو لأبويه، ونُقل الخبريةُ إليه تنصيصاً على استحقاق كلَ منهما السدسَ وتأكيداً له بالتفصيل بعد الإجمالِ وقرىء السدْسُ بسكون الدال تخفيفاً، وكذلك الثلْثُ والربْعُ والثمْنُ { مّمَّا تَرَكَ } متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من السدس، والعاملُ الاستقرارُ المعتبرُ في الخبر أي كائناً مما ترك المُتوفّىٰ { إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ } أو ولدُ ابنٍ ذكراً كان أو أنثى واحداً أو متعدداً غير أن الأبَ في صورة الأنوثةِ بعد ما أخذ فرضَه المذكورَ يأخذ ما بقيَ من ذوي الفروضِ بالعصوبة { فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ } ولا ولدُ ابنٍ { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ } فحسْبُ { فَلأِمّهِ ٱلثُّلُثُ } مما ترك والباقي للأب، وإنما لم يُذكَرْ لعدم الحاجةِ إليه لأنه لما فُرض انحصارُ الوارثِ في أبويه، وعُيِّن نصيبُ الأم عُلمَ أن الباقيَ للأب، وتخصيصُ جانبِ الأمِّ بالذِكر وإحالةُ جانبِ الأبِ على دَلالة الحالِ ــ مع حصولِ البـيانِ بالعكس أيضاً ــ لما أنَّ حظَّها أخصَرُ واستحقاقَه أتمُّ وأوفرُ، أو لأن استحقاقَه بطريق العصوبةِ دون الفرضِ هذا إذا لم يكن معهما أحدُ الزوجين أما إذا كان معهما ذلك فللأم ثلثُ ما بقيَ بعد فرضِ أحدِهما لا ثلثُ الكلِّ كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما فإنه يُفضي إلى تفضيل الأمِّ على الأب مع كونه أقوى منها في الإرث بدليل إضعافِه عليها عند انفرادِهما عن أحد الزوجين وكونِه صاحبَ فرضٍ وعصبةٍ وذلك خلافُ وضعِ الشرع.

{ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } أي عددٌ ممن له أخوةٌ من غير اعتبارِ التثليثِ سواءٌ كانت من جهة الأبوين أو من جهة أحدِهما وسواءٌ كانوا ذكوراً أو إناثاً أو مختلِطين وسواءٌ كان لهم ميراثٌ أو كانوا محجوبـين بالأب { فَلأِمِهِ ٱلسُّدُسُ } أما السدسُ الذي حجبوها عنه فهو للأب عند وجودِه ولهم عند عدمِه وعليه الجمهورُ، وعند ابنِ عباس رضي الله عنهما أنه لهم على كلِّ حالٍ خلا أن هذا الحجبَ عنده لا يتحقق بما دون الثلاثِ وبالأخوات الخُلَّص، وقرىء فلإِمِّه بكسر الهمزةِ إتْباعاً لما قبلها { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ } خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ، والجملةُ متعلقةٌ بما تقدم جميعاً لا بما يليها وحدَه، أي هذه الأنصباءُ للورثة من بعد إخراجِ وصيةٍ { يُوصِى بِهَا } أي الميتُ وقرىء مبنياً للمفعول مخففاً ومبنياً للفاعل مشدداً يوصّي، وفائدةُ الوصفِ الترغيبُ في الوصية والندبُ إليها { أَوْ دَيْنٍ } عطفٌ على وصيةٍ إلا أنه غيرُ مقيدٍ بما قُيدتْ به من الوصف بل هو مُطلقٌ يتناول ما ثبت بالبـينة أو الإقرارِ في الصحةِ، وإيثارُ { أَوْ } المفيدةِ للإباحة على الواو للدِلالة على تساويهما في الوجوب وتقدُّمِهما على القِسْمة مجموعَيْن أو منفردَيْن، وتقديمُ الوصيةِ على الديْن ذكراً مع تأخّرها عنه حُكماً لإظهار كمالِ العنايةِ بتنفيذها لكونها مظِنةً للتفريط في أدائها ولاطّرادها بخلاف الدَّين { آباؤكم وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } الخطابُ للورثة فـآباؤكم مبتدأ وأبناؤكم عطفٌ عليه ولا تدرون خبرُه وأيُّهم مبتدأٌ وأقربُ خبرُه، ونفعاً نُصب على التميـيز منه، وهو منقول من الفاعلية كأنه قيل: أيُّهم أقربُ لكم نفعُه؟ والجملةُ في حيز النصبِ بلا تدرون، والجملةُ الكبـيرةُ اعتراضيةٌ مؤكِّدةٌ لوجوب تنفيذِ الوصيةِ أي أصولُكم وفروعُكم الذين يُتَوَفَّون لا تدرون أيُّهم أنفعُ لكم أمَنْ يوصي ببعض مالِه فيُعرِّضَكم لثواب الآخرةِ بتنفيذ وصيتِه أم مَنْ لا يوصي بشيء فيوفرَ عليكم عَرَضَ الدنيا؟ وليس المرادُ بنفي الدرايةِ عنهم بـيانَ اشتباهِ الأمرِ عليهم وكونَ أنفعيةِ كلَ من الأول والثاني في حيز الاحتمال عندهم من غير رجحانِ أحدِهما على الآخر كما في قوله عليه الصلاة والسلام: "مثلُ أمتي مثلُ المطرِ لا يُدرىٰ أولُه خيرٌ أمْ آخرُه" فإن ذلك بمعزل من إفادة التأكيدِ المذكورِ والترغيبِ في تنفيذ الوصيةِ بل تحقيقَ أنفعيةِ الأولِ في ضمن التعريضِ بأن لهم اعتقاداً بأنفعية الثاني مبنياً على عدم الدراية، وقد أشير إلى ذلك حيث عبّر عن الأنفعية بأقربـيّة النفعِ تذكيراً لمناط زعمِهم وتعيـيناً لمنشأ خطئِهم ومبالغةً في الترغيب المذكورِ بتصوير الثوابِ الآجلِ بصورة العاجلِ لأن الطباعَ مجبولةٌ على حب الخيرِ االحاضرِ كأنه قيل: لا تدرون أيُّهم أنفعُ لكم فتحكُمون نظراً إلى ظاهر الحالِ وقربِ المنالِ بأنفعية الثاني مع أن الأمرَ بخلافه، فإن ثوابَ الآخرةِ ــ لتحقق وصولِه إلى صاحبه ودوامِ تمتّعِه به مع غاية قصْرِ مدةِ ما بـينهما من الحياة الدنيا ــ أقربُ وأحضرُ، وعرَضُ الدنيا ــ لسرعة نفادِه وفنائِه ــ أبعدُ وأقصى. وقيل: الخطابُ للمورِّثين، والمعنى لا تعلمون من أنفعُ لكم ممن يرِثُكم من أصولكم وفروعِكم عاجلاً وآجلاً فتحَرَّوا في شأنهم ما أوصاكم الله تعالى به ولا تعمِدوا إلى تفضيلِ بعضٍ وحرمانِ بعض. روي أن أحدَ المتوالدين إذا كان أرفعَ درجةً من الآخر في الجنة سأل الله تعالى أن يرفعَ إليه صاحبَه فيُرفعُ إليه بشفاعته. قيل: فالجملةُ الاعتراضيةُ حينئذ مؤكدةٌ لأمر القِسْمةِ وأنت خبـيرٌ بأنه مُشعرٌ بأن مدارَ الإرثِ ما ذُكر من أقربـية النفعِ أنه العلاقةُ النسبـية { فَرِيضَةً مّنَ ٱللَّهِ } نُصِبت نصْبَ مصدرٍ مؤكدٍ لفعل محذوفٍ أي فرض الله ذلك فرضاً أو لقوله تعالى: { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ } فإنه في معنى يأمركم ويفرِض عليكم { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً } أي بالمصالح والرُّتَب { حَكِيماً } في كل ما قضى وقدر فيدخُل فيه الأحكامُ المذكورةُ دخولاً أولياً.