التفاسير

< >
عرض

لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً
١٧٢
-النساء

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ } استئنافٌ مقررٌ لما سبق من التنزيه، والاستنكافُ الأنَفةُ والترفعُ من نكفتَ الدمعَ إذا نحيتَه عن وجهك بالأصبع أي لن يأنف ولن يترفع { أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ } أي عن أن يكون عبداً له تعالى مستمراً على عبادته وطاعتِه حسبما هو وظيفةُ العبودية، كيف وإن ذلك أقصىٰ مراتبِ الشرفِ، والاقتصارُ على ذكر عدمِ استنكافِه عليه السلام عنه مع أن شأنه عليه السلام المباهاةُ به كما يدل عليه أحوالُه ويُفصِحُ عنه أقوالُه، ألا يُرى أن أولَ مقالةٍ قالها للناس قولُه: { { قَالَ إِنّى عَبْدُ ٱللَّهِ ءاتَانِىَ ٱلْكِتَـٰبَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً } [مريم، الآية 30] لوقوعه في موقع الجوابِ عما قاله الكفرة. روي ( "أن وفد نجرانَ قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لِمَ تَعيبُ صاحبَنا، قال: ومن صاحبُكم؟، قالوا: عيسى، قال: وأيُّ شيء أقول؟ قالوا: تقول له عبدُ الله، قال: إنه ليس بعار أن يكون عبداً لله" ، قالوا: بلى فنزلت)، وهو السرُّ في جعل المستنكَفِ عنه كونَه عليه السلام عبداً له تعالى دون أن يقال عن عبادة الله ونحوُ ذلك مع إفادة فائدةٍ جليلةٍ هي كمالُ نزاهتِه عليه السلام عن الاستنكافِ بالكلية فإن كونَه عبداً له تعالى حالةٌ مستمرةٌ مستتبِعةٌ لدوام العبادةِ قطعاً، فعدمُ الاستنكافِ عنه مستلزِمٌ لعدم الاستنكافِ عن عبادته تعالى كما أشير إليه بخلاف عبادتِه تعالى فإنها حالةٌ متجدِّدة غيرُ مستلزِمةٍ للدوام يكفي في اتّصاف موصوفِها بما يُحققها مرةً، فعدمُ الاستنكافِ عنها لا يستلزِمُ عدمَ الاستنكافِ عن دوامها.

{ وَلاَ ٱلْمَلَـٰـئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } عطفٌ على المسيح أي ولا يستنكف الملائكةُ المقربون أن يكونوا عبـيداً لله تعالى، وقيل: إن أريد بالملائكة كلُّ واحد منهم لم يُحتَجْ إلى التقدير، واحتَجّ بالآية من زعم فضلَ الملائكةِ على الأنبـياء عليهم السلام وقال: مَساقُه لرد النصارى في رفع المسيحِ عن مقام العبوديةِ، وذلك يقتضي أن يكون المعطوفُ أعلى درجةً من المعطوف عليه حتى يكون عدمُ استنكافِهم مستلزماً لعدم استنكافِه عليه السلام، وأجيب بأن مناطَ كفرِ النصارى ورفعِهم له عليه السلام عن رتبة العبوديةِ لمّا كان اختصاصُه عليه السلام وامتيازُه عن سائر أفرادِ البشرِ بالولادة من غير أبٍ وبالعلم بالمُغيِّبات وبالرفع إلى السماء عُطف على عدم استنكافِه عن عبوديته تعالى عدمُ استنكافِ مَنْ هو أعلى درجةً منه فيما ذكر، فإن الملائكةَ مخلوقون من غير أبٍ ولا أمَ، وعالمون بما لا يعلمه البشرُ من المغيبات، ومَقارُّهم السمواتُ العلا، ولا نزاعَ لأحد في علو درجتِهم من هذه الحيثيةِ وإنما النزاعُ في علوّها من حيث كثرةُ الثوابِ على الطاعات، وبأن الآيةَ ليست للرد على النصارى فقط بل على عبَدة الملائكةِ أيضاً فلا اتجاه لما قالوا حينئذ وإنْ سَلِم اختصاصُها بالرد على النصارى فلعله أُريد بالعطف المبالغةُ باعتبار التكثيرِ والتفصيلِ لا باعتبار التكبـيرِ والتفضيلِ، كما في قولك: أصبح الأميرُ لا يخالفه رئيسٌ ولا مرؤوسٌ، ولئن سُلّم إرادةُ التفضيلِ فغايةُ الأمرِ الدلالةُ على أفضلية المقربـين منهم، وهم الكروبـيون الذين حول العرشِ أو من هو أعلى منهم رتبةً من الملائكة عليهم السلام على المسيح من الأنبـياء عليهم السلام وليس يلزم من ذلك فصلُ أحدِ الجنسين على الآخر مطلقاً، وهل التشاجرُ إلا فيه؟ { وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ } أي عن طاعته فيشمل جميعَ الكفرةِ لعدم طاعتِهم له تعالى مما لا سبـيلَ لهم إلى إنكار اتصافِهم به. إن قيل: لم عبّر عن عدم طاعتِهم له تعالى بالاستنكاف عنها مع أن ذلك منهم كان بطريق إنكارِ كونِ الأمرِ من جهته تعالى لا بطريق الاستنكافِ، قلنا: لأنهم كانوا يستنكفون عن طاعة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهل هو إلا استنكافٌ عن طاعة الله تعالى؟ إذ لا أمرَ له عليه الصلاة والسلام سوى أمرِه تعالى { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [النساء، الآية 80] { وَيَسْتَكْبِرْ } الاستكبارُ الأنَفةُ عما لا ينبغي أن يُؤنَفَ عنه وأصلُه طلبُ الكِبْر لنفسه بغير استحقاقٍ له لا بمعنى طلب تحصيلِه مع اعتقاد عدمِ حصولِه فيه بل بمعنى عدِّ نفسِه كبـيراً واعتقادِه كذلك، وإنما عبّر عنه بما يدل على الطلب للإيذان بأن مآلَه محضُ الطلبِ بدون حصولِ المطلوب وقد عبر عن مثل ذلك بنفس الطلب في قوله تعالى: { يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } [الأعراف، الآية 45. وسورة هود، الآية 19] فإنهم ما كانوا يطلبون ثبوتَ العِوِجِ لسبـيل الله مع اعتقادهم لاستقامتها بل كانوا يعدّونها ويعتقدونها مُعْوجّةً ويحكمون بذلك ولكن عبّر عن ذلك بالطلب لِما ذكر من الإشعار بأن ليس هناك شيءٌ سوى الطلبِ والاستكبارِ دون الاستنكافِ المنبىءِ عن توهم لُحوقِ العارِ والنقصِ من المستنكَفِ عنه.

{ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } أي المستنكِفين ومقابليهم المدلولَ عليهم، ذُكر عدمُ استنكافِ المسيحِ والملائكةِ عليهم السلام، وقد تُرك ذكرُ أحدِ الفريقين في المفصل ـــ تعويلاً على إنباء التفصيلِ عنه وثقةً بظهور اقتضاءِ حشرِ أحدِهما لحشر الآخرِ ضرورةَ عمومِ الحشرِ للخلائق كافةً، كما تُرك ذكرُ أحدِ الفريقين في التفصيل عند قوله تعالى: { { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱللَّهِ } [النساء، الآية 175] الآية، مع عموم الخطابِ لهما اعتماداً على ظهور اقتضاءِ إثابةِ أحدِهما لعقاب الآخر ضرورةَ شمولِ الجزاءِ للكل، وقيل: الضميرُ للمستنكِفين وهناك مقدَّرٌ معطوفٌ عليه، والتقديرُ فسيحشرهم إليه يوم يحشرُ العبادَ لمجازاتهم، وفيه أن الأنسبَ بالتفصيلِ الآتي اعتبارُ حشرِ الكلِّ في الإجمال على نهج واحدٍ، وقرىء فسِيحشُرهم بكسر السين وهي لغة وقرىء فسنحشرهم بنون العظمةِ بطريق الالتفات.