التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يَشْتَرُونَ ٱلضَّلَٰلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ
٤٤
-النساء

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ } كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لتعجب المؤمنين من سوء حالِهم والتحذيرِ عن موالاتهم، والخطابُ لكل من يتأتّى منه الرؤيةُ من المؤمنين وتوجيهُه فيما بعدُ إلى الكل معاً للإيذان بكمال شهرةِ شناعةِ حالِهم وأنها بلغت من الظهور إلى حيث يتعجّبُ منها كلُّ مِنْ يراها والرؤيةُ بَصَريةٌ أي ألم تنظُرْ إليهم فإنهم أحِقّاءُ أن تشاهِدَهم وتتعجب من أحوالهم، وتجويزُ كونِها قلبـيةً على أن { إِلَىٰ } تتضمن معنى الانتهاءِ لما فعلوه يأباه مقامُ تشهيرِ شنائعِهم ونظمِها في سلك الأمورِ المشاهدةِ والمرادُ بهم أحبارُ اليهود.

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في حَبْريْنِ من أحبار اليهودِ كانا يأتيان رأسَ المنافقين عبدَ اللَّه بنَ أُبـيَ ورهطَه يُثبِّطانِهم عن الإسلام. وعنه رضي الله عنه أيضاً أنها نزلت في رُفاعةَ بنِ زيدٍ ومالكِ بنِ دخشم كانا إذا تكلم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لَوَيا لسانَهما وعاباه. والمرادُ بالكتاب هو التوراةُ وحملُه على جنس الكتابِ المنتظِمِ لها انتظاماً أولياً تطويلٌ للمسافة، وبالذي أوتوه ما بُـيِّن لهم فيها من الأحكام والعُلومِ التي من جملتها ما علِموه من نُعوت النبـيِّ صلى الله عليه وسلم وحقِّيةِ الإسلامِ، والتعبـيرُ عنه بالنصيب المنبىءِ عن كونه حقاً من حقوقهم التي يجب مراعاتُها والمحافظةُ عليها للإيذان بكمال ركاكةِ آرائِهم حيث ضيّعوه تضيـيعاً، وتنوينُه تفخيميٌّ مؤيدٌ للتشنيع عليهم والتعجيبِ من حالهم، فالتعبـيرُ عنهم بالموصول للتنبـيه بما في حيز الصلةِ على كمال شناعتِهم والإشعارِ بمكان ما طُويَ ذكرُه في المعاملة المَحْكيةِ عنهم من الهدى الذي هو أحدُ العِوَضَيْنِ، وكلمةُ { مِنْ } متعلقةٌ إما بأُوتوا أو بمحذوف وقع صفةً لنصيباً مبـينةً لفخامته الإضافيةِ إثرَ بـيانِ فخامتِه الذاتيةِ أي نصيباً كائناً من الكتاب وقوله تعالى: { يَشْتَرُونَ ٱلضَّلـٰلَةَ } قيل: هو حالٌ مقدرةٌ من واوِ { أُوتُواْ } ولا ريب في أن اعتبارَ تقديرِ اشترائِهم المذكورِ في الإيتاء مما لا يليقُ بالمقام، وقيل: هو حالٌ من الموصولِ أي ألم تنظُرْ إليهم حال اشترائِهم، وأنت خبـيرٌ بأنه خالٍ عن إفادة أن مادةَ التشنيعِ والتعجيبِ هو الاشتراءُ المذكورُ وما عطف عليه، والذي تقتضيه جزالةُ النظمِ الكريمِ أنه استئنافٌ مبـينٌ لمناط التشنيعِ ومدارِ التعجيبِ المفهومَيْن من صدر الكلامِ على وجه الإجمالِ والإبهامِ، مبنيٌّ على سؤال نشأ منه كأنه قيل: ماذا يصنعون حتى يُنظَرَ إليهم؟ فقيل: يأخذون الضلالةَ ويترُكون ما أُوتوه من الهداية، وإنما طُويَ ذكرُ المتروك لغاية ظهورِ الأمرِ لا سيما بعد الإشعارِ المذكورِ، والتعبـيرُ عن ذلك بالاشتراء الذي هو عبارةٌ عن استبدال السلعةِ بالثمن أي أخذِها بدلاً منه أخذاً ناشئاً عن الرغبة فيها والإعراضِ عنه للإيذان بكمال رغبتِهم في الضلالة التي حقُّها أن يُعرَضَ عنها كلَّ الإعراضِ، وإعراضِهم عن الهداية التي يتنافس فيها المتنافسون، وفيه من التسجيل على نهاية سخافةِ عقولِهم وغايةِ ركاكةِ آرائِهم ما لا يخفى حيث صُوِّرت حالُهم بصورة ما لا يكاد يتعاطاه أحدٌ ممن له أدنى تميـيزٍ، وليس المرادُ بالضلالة جنسَها الحاصلَ لهم من قبلُ حتى يُخِلَّ بمعنى الاشتراءِ المنبـيءِ عن تأخُّرِها عنه بل هو فردُها الكاملُ وهو عنادُهم وتماديهم في الكفر بعد ما علموا بشأن النبـيِّ عليه السلام وتيقنوا بحقِّية دينه وأنه هو النبـيُّ العربـيُّ المبشَّرُ به في التوراة، ولا ريب في أن هذه الرتبةَ لم تكن حاصلةً لهم قبل ذلك وقد مر في أوائل سورة البقرة.

{ وَيُرِيدُونَ } عطفٌ على يشترون شريكٌ له في بـيان محلِّ التشنيعِ والتعجبِ، وصيغةُ المضارعِ فيهما للدِلالة على الاستمرار التجدّدي، فإن تجددَ حُكمِ اشترائِهم المذكورِ وتكررَ العملِ بموجبه في قوة تجدّدِ نفسِه وتكرُّرِه، أي لا يكتفون بضلال أنفسِهم بل يريدون بما فعلوا من كتمان نعوتِه عليه السلام { أَن تَضِلُّواْ } أنتم أيضاً أيها المؤمنون { ٱلسَّبِيلِ } المستقيمَ الموصِلَ إلى الحق.