التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ ٱلآَثِمِينَ
١٠٦
-المائدة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا } استئناف مَسوقٌ لبـيان الأحكامِ المتعلقة بأمور دنياهم إثرَ بـيانِ الأحوال المتعلقةِ بأمور دينهم، وتصديرُه بحرفي النداءِ والتنبـيه لإظهار كمالِ العناية بمضمونه، وقولُه عز وجل: { شَهَـٰدَةُ بَيْنِكُمْ } بالرفع والإضافة إلى الظرف توسعاً، إما باعتبار جَرَيانِها بـينهم، أو باعتبار تعلّقِها بما يجري بـينهم من الخصومات، مبتدأ، وقوله تعالى: { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } أي شارفه وظهرت علائمُه، ظرفٌ لها، وتقديمُ المفعول لإفادة كمالِ تمكن الفاعل عند النفْس وقت ورودِه عليها، فإنه أدخلُ في تهوين أمر الموت، وقولُه تعالى: { حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ } بدلٌ منه لا ظرف للموت كما تُوُهِّم، ولا لحضوره كما قيل، فإن في الإبدال تنبـيهاً على أن الوصية من المَهَمّات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهَلَ عنها، وقوله تعالى: { ٱثْنَانِ } خبرٌ للمبتدأ بتقدير المضاف، أي شهادةُ بـينكم حينئذ شهادةُ اثنين، أو فاعلُ (شهادةُ بـينكم) على أن خبرها محذوف، أي فيما نزل عليكم أن يشهد بـينكم اثنان، وقرىء (شهادةٌ) بالرفع والتنوين، والإعرابُ كما سبق، وقرىء (شهادةً) بالنصب والتنوين على أن عاملها المضمرَ هو العامل في اثنان أيضاً أي ليُقِمْ شهادةً بـينكم اثنان { ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ } أي من أقاربكم لأنهم أعلم بأحوال الميت وأنصح له، وأقرب إلى تحرِّي ما هو أصلح له. وقيل: من المسلمين وهما صفتان لاثنان.

{ أَوْ آخَرَان } عطف على اثنان تابع له فيما ذُكر من الخبرية والفاعلية، أي أو شهادةُ آخَرَيْن أو أن يشهد بـينكم آخران، أو ليقم (شهادةً بـينكم) آخران، وقوله تعالى: { مِنْ غَيْرِكُمْ } صفةٌ (لآخَران) أي كائنان من غيركم أي من الأجانب، وقيل: من أهل الذمة، وقد كان ذلك في بدء الإسلام لعزة وجود المسلمين لا سيما في السفر، ثم نسخ. وعن مكحول أنه نسخها قوله تعالى: { { وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ } } [الطلاق، الآية 2].

{ إِنْ أَنتُمْ } مرفوعٌ بمُضْمرٍ يفسرُه ما بعده تقديره إن ضربتم، فلما حُذف الفعل انفصل الضمير، وهذا رأيُ جمهور البَصْريـين، وذهب الأخفش والكوفيون إلى أنه مبتدأٌ بناءً على جواز وقوعِ المبتدأ بعد إنْ الشرطية كجواز وقوعِه بعد إذا، فقوله تعالى: { ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ } أي سافرتم فيها، لا محل له من الإعراب عند الأولين لكونه مفسِّراً، ومرفوع على الخبرية عند الباقين. وقوله تعالى: { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ } عطفٌ على الشرطية، وجوابُه محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه، أي إن سافرتم فقاربَكم الأجلُ حينئذ، وما معكم من الأقارب أو من أهل الإسلام مَنْ يتولىٰ أمرَ الشهادة كما هو الغالب المعتاد في الأسفار، فليشهد آخرانِ أو فاستشهدوا آخَرَيْن أو فالشاهدانِ آخرانِ كذا قيل، والأنسب أن يقدَّر عينُ ما سبق، أي فآخرانِ على معنى شهادةُ بـينِكم شهادةُ آخَرَيْن، أو فأَنْ يشهَدَ آخران، على الوجوه المذكورة ثمَةَ، وقوله تعالى: { تَحْبِسُونَهُمَا } استئنافٌ وقعَ جواباً عما نشأ من اشتراط العدالة كأنه قيل: فكيف نصنع إنِ ارْتبْنا بالشاهدين؟ فقيل: تحبِسونهما وتَصْبِرونهما للتحليف { مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ } وقيل: هو صفة (لآخران)، والشرط بجوابه المحذوف اعتراضٌ فائدته الدلالة على أن اللائق إشهادُ الأقارب أو أهلِ الإسلام، وأما إشهادُ الآخَرِين فعند الضرورة المُلجئةِ إليه، وأنت خبـير بأنه يقتضي اختصاصَ الحبس بالآخرين مع شموله للأولين أيضاً قطعاً، على أن اعتبارَ اتصافهما بذلك يأباه مقامُ الأمر بإشهادهما، إذ مآلُه فآخرانِ شأنُهما الحبسُ والتحْليف، وإن أمكن إتمام التقريب باعتبار قَيدِ الارتياب بهما كما يفيده الاعتراضُ الآتي، والمرادُ بالصلاة صلاةُ العصر، وعدمُ تعيـينها لتعيُّنِها عندهم بالتحْليف بعدها لأنه وقت اجتماع الناس ووقت تصادُمِ ملائكة الليل وملائكة النهار، ولأن جميع أهل الأديان يعظّمونه ويجتنبون فيه الحلِفَ الكاذب. وقد روي أن النبـي عليه الصلاةَ والسلام وقتئذ حلّف من حلف كما سيأتي، وقيل: بعد أي صلاة كانت لأنها داعيةٌ إلى النطق بالصدق، وناهيةٌ عن الكذِب والزور { إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } [العنكبوت، الآية 45].

{ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ } عطفٌ على تحبسونهما وقوله تعالى: { إِنِ ٱرْتَبْتُمْ } شرطية محذوفةُ الجواب لدلالة ما سبق من الحبس والإقسام عليه، سيقت من جهته تعالى معترِضةً بـين القسمَ وجوابِه للتنبـيه على اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب، أي إن ارتاب بهما الوارِثُ منكم بخيانةٍ وأخذِ شيءٍ من التركة فاحبِسوهما وحلِّفوهما بالله، وقولُه تعالى: { لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً } جوابٌ للقسم، وليس هذا من قبـيل ما اجتمع فيه قَسَمٌ وشرط، فاكتُفِيَ بذكر جوابِ سابقِهما عن جواب الآخر كما هو الواقع غالباً، فإن ذلك إنما يكون عند سدِّ جواب السابق مَسدَّ جوابِ اللاحق لاتحاد مضمونها كما في قولك: والله إن أتيتَني لأكرمنك، ولا ريب في استحالة ذلك هٰهنا لأن القسم وجوابه كلاهما [منفصل] وقد عرفت أن الشرط من جهته تعالى، والاشتراءُ هو استبدال السلعة بالثمن أي أخذُها بدلاً منه لا بذلُه لتحصيلها كما قيل، وإن كان مستلزِماً له، فإن المعتبرَ في عقد الشراء ومفهومِه هو الجلبُ دون السلب المعتبر في عقد البـيع، ثم استُعير لأخذ شيءٍ بإزالة ما عنده عيناً كان أو معنى على وجه الرغبة في المأخوذ والإعراض عن الزائل، كما هو المعتبر في المستعار منه حسبما مر تفصيلُه في تفسير قوله تعالى: { { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [البقرة، الآية 16. والآية 175] والضمير في (به) لله، والمعنى لا نأخذ لأنفسنا بدلاً من الله، أي مِنْ حُرمته عَرَضاً من الدنيا بأن نهتِكَها ونُزيلَها بالحلف الكاذب، أي لا نحلف بالله كاذبـين لأجل المال، وقيل: الضمير للقسم، فلا بد من تقدير مضافٍ البتةَ، أي لا نستبدل بصحة القسم بالله، أي لا نأخذ لأنفسنا بدلاً منها عرَضاً من الدنيا بأن نُزيلَ عنه وصفَ الصدق ونصفَه بالكذب، أي لا نحلف كاذبـين كما ذكر وإلا فلا سِدادَ للمعنى، سواءٌ أريد به القسمُ الصادقُ أو الكاذب، أما إن أريدَ به الكاذبُ فلأنه يفوِّتُ حينئذ ما هو المعتبرُ في الاستعارة من كون الزائل شيئاً مرغوباً فيه عند الحالف كحُرمة اسمِ الله تعالى ووصفِ الصحة والصدق في القسم، ولا ريب في أن القسم الكاذبَ ليس كذلك، وأما إن أريد به الصادقُ فلأنه ـ وإن أمكن أن يُتوسَّلَ باستعمالِه إلى عَرَض الدنيا كالقسم الكاذب ـ لكن لا محذور فيه، وأما التوسلُ إليه بترك استعماله فلا إمكان له هٰهنا حتى يصِحَّ التبروءُ منه، وإنما يُتوسَّلُ إليه باستعمال القسم الكاذب، وليس استعمالُه من لوازم ترْكِ استعمالِ الصادق ضرورةَ جوازِ تركِهما معاً حتى يُتصوَّرَ جعلُ ما أُخذَ باستعمالِه مأخوذاً بتركِ استعمالِ الصادق كما في صورة تقديرِ المضاف، فإن إزالةَ وصْفِ الصدق عن القسم مع بقاء الموصوفِ مستلزِمةٌ لثبوت وصفِ الكذِب له البتة فتأمل، وقوله تعالى: { وَلَوْ كَانَ } أي المقسَمُ له المدلولُ عليه بفحوى الكلام { ذَا قُرْبَىٰ } أي قريباً منا، تأكيدٌ لتبرُّئهم من الحلف كاذباً ومبالغةٌ في التنزه عنه، كأنهما قالا: لا نأخذُ لأنفسنا بدلاً من حُرمة اسمه تعالى مالاً ولو انضمَّ إليه رعايةُ جانبِ الأقرباء، فكيف إذا لم يكنْ كذلك، وصيانةُ أنفسِهما وإن كانت أهمَّ من رعاية الأقرباء لكنها ليست ضميمةً للمال، بل هي راجعة إليه، وجواب (لو) محذوفٌ ثقةً بدلالة ما سبق عليه، أي لا نشتري به ثمناً، والجملة معطوفةٌ على أخرى مثلِها، كما فُصِّل في تفسير قوله تعالى: { وَلَوْ أَعْجَبَكَ } [المائدة، الآية 100] الخ، وقوله عز وجل: { وَلاَ نَكْتُمُ شَهَـٰدَةَ ٱللَّهِ } أي الشهادة التي أمرَنا الله تعالى بإقامتها، معطوفٌ على (لا نشتري به) داخلٌ معه في حكم القسم، وعن الشعبـي أنه وَقَفَ على شهادة، ثم ابتدأ (آلله) بالمد على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه بغير مد، كقولهم: الله لأفعلن { إِنَّا إِذَاً لَّمِنَ ٱلآثِمِينَ } أي إن كتمناها، وقرىء (لمِلاثِمين) بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدخال النون فيها.