التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٢
-المائدة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ } لمّا بـيّن حُرمةَ إحلال الإحرام الذي هو من شعائر الحج عقّب ذلك ببـيان حرمة إحلال سائر الشعائر، وإضافتُها إلى الله عز وجل لتشريفها وتهويلِ الخطب في إحلالها، وهي جمع شعيرةٍ وهي اسم لما أُشعِر، أي جُعل شِعاراً وعَلَماً للنُسُك من مواقيت الحج ومرامي الجمار والمطافِ والمسعى، والأفعالِ التي هي علاماتُ الحج يُعرف بها، من الإحرام والطوافِ والسعْي والحلق والنحر، وإحلالُها أن يُتهاوَن بحرمتها ويُحال بـينها وبـين المتنسّكين بها ويُحدَثَ في أشهر الحج ما يُصَدّ به الناسُ عن الحج. وقيل: المراد بها دينُ الله لقوله تعالى: { { وَمَن يُعَظّمْ شَعَـٰئِرَ ٱللَّهِ } [الحج، الآية 32] أي دِينه، وقيل: حرماتِ الله، وقيل: فرائضَه التي حدّها لعباده، وإحلالُها الإخلالُ بها، والأول أنسبُ بالمقام. { وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ } أي لا تُحِلّوه بالقتال فيه، وقيل: بالنّسيء، والأول هو الأولى بحالة المؤمنين، والمراد به شهر الحج، وقيل: الأشهر الأربعة الحرم، والإفراد لإرادة الجنس { وَلاَ ٱلْهَدْىَ } بأن يُتعرَّضَ له بالغَضْب أو بالمنع عن بلوغِ مَحِلِّه، وهو ما أُهدِيَ إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاءِ، جمعُ هَدْيَة كجَدْيٍ وجَدْية { وَلاَ ٱلْقَلَـٰئِدَ } هي جمعُ قِلادة، وهي ما يُقلَّد به الهدْيُ من نعلٍ أو لِحاءِ شجرٍ ليُعلم به أنه هدْيٌ فلا يُتعرَّضَ له، والمراد النهيُ عن التعرض لذوات القلائد من الهدْي وهي البُدْن، وعطفُها على الهدي مع دخولها فيه لمزيد التوصية بها لمزيتها على ما عداها، كما عَطفَ جبريلَ وميكالَ على الملائكة عليهم السلام، كأنه قيل: والقلائدَ منه خصوصاً، أو النهيُ عن التعرض لنفس القلائدِ مبالغةً في النهي عن التعرض لأصحابها، على معنى لا تُحِلّوا قلائدَها فضلاً عن أن تحلوها، كما نهىٰ عن إبداء الزينة بقوله تعالى: { { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } [النور، الآية 31] مبالغةً في النهي عن إبداء مواقِعِها { وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ } أي لا تُحلّوا قوماً قاصدين زيارته بأن تصُدّوهم عن ذلك بأي وجه كان، وقيل: هناك مضافٌ محذوف أي قتالَ قومٍ أو أذى قوم آمين الخ، وقُرىء ولا آمِّي البـيتِ الحرامِ بالإضافة، وقوله تعالى: { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ وَرِضْوٰناً } حالٌ من المستكنِّ في آمين لا صفةٌ له، لأن المختار أن اسم الفاعل إذا وُصف بطَلَ عملُه أي قاصدين زيارته حال كونهم طالبـين أن يُثيبَهم الله تعالى ويرضَى عنهم. وتنكيرُ (فضلاً ورضواناً) للتفخيم، و(من ربهم) متعلق بنفس الفعل، أو بمحذوفٍ وقع صفة لفضلاً مُغنيةً عن وصفِ ما عُطف عليه بها، أي فضلاً كائناً من ربهم ورضواناً كذلك.

والتعرُّضُ لعنوان الربوبـية مع الإضافة إلى ضميرهم لتشريفهم والإشعارِ بحصول مبتغاهم. وقُرىء (تَبْتغون) على الخطاب، فالجملة حينئذ حال من ضمير المخاطَبـين في (لا تُحلوا) على أن المرادَ بـيانُ منافاة حالهم هذه للمنهيِّ عنه لا تقيـيدُ النهي بها، وإضافة الرب إلى ضمير الآمّين للإيماء إلى اقتصار التشريف عليهم، وحِرمانِ المخاطَبـين عنه وعن نيل المُبتغىٰ، وفي ذلك من تعليلِ النهْي وتأكيدِه والمبالغة في استنكار المنهيّ عنه ما لا يخفى، ومن هٰهنا قيل: المراد بالآمّين هم المسلمون خاصة، وبه تمسك من ذهب إلى أن الآية مُحْكمة، وقد رُوي أن النبـي عليه الصلاة والسلام قال: "سورة المائدة من آخِرِ القرآن نزولاً فأحِلّوا حَلالَها وحرِّموا حرامَها" . وقال الحسنرحمه الله تعالى: ليس فيها منسوخ، وعن أبـي ميسرة: فيها ثماني عشرةَ فريضةً وليس فيها منسوخ.

وقد قيل: هم المشركون خاصة لأنهم المحتاجون إلى نهي المؤمنين عن إحلالهم دون المؤمنين، على أن حرمة إحلالهم ثبتت بطريق دلالة النص، ويؤيده أن الآية نزلت في الحطم بنِ ضبـيعة البَكْري وقد كان أتى المدينة فخلّف خيلَه خارجها فدخل على النبـي عليه الصلاة والسلام وحده ووعده أن يأتيَ بأصحابه فيُسلموا، ثم خرج من عنده عليه السلام فمر بسَرْح المدينة فاستاقه، فلما كان في العام القابل خرج من اليمامة حاجاً في حُجّاج بكرِ بنِ وائل ومعه تجارة عظيمة وقد قلّدوا الهدْي، فسأل المسلمون النبـي صلى الله عليه وسلم أن يُخلِّيَ بـينهم وبـينه فأباه النبـي عليه الصلاة والسلام فأنزل الله عز وجل: { يَـٱأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ } الآية، وفُسِّر ابتغاءُ الفضل بطلب الرزق بالتجارة، وابتغاءُ الرضوان بأنهم كانوا يزعُمون أنهم على سِدادٍ من دَيْنهم، وأن الحج يقرّبهم إلى الله تعالى، فوصفهم الله تعالى بظنهم، وذلك الظنُّ الفاسد وإن كان بمعزل من استتباع رضوانِه تعالى لكن لا بُعدَ في كونه مداراً لحصول بعض مقاصدهم الدنيوية وخلاصِهم عن المكاره العاجلة لا سيما في ضمن مراعاة حقوق الله تعالى وتعظيم شعائره، وقال قتادة: هو أن يُصلح معايشَهم في الدنيا ولا يعجّلَ لهم العقوبة فيها، وقيل: هم المسلمون والمشركون، لما رُوي عن ابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما أن المسلمين والمشركين كانوا يُحجّون جميعاً فنهى الله المسلمين أن يمنعوا أحداً عن حج البـيت بقوله تعالى: { لاَ تُحِلُّواْ } الآية، ثم نزل بعد ذلك، { { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ } [التوبة، الآية 28] وقوله تعالى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } [التوبة، الآية 17] وقال مجاهد والشعبـي: (لا تحلوا) نُسخ بقوله تعالى: { { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة، الآية 5] ولا ريب في تناول الآمّين للمشركين قطعاً، إما استقلالاً وإما اشتراكاً لما سيأتي من قوله تعالى: { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ } الخ، فيتعين النسخُ كُلاًّ أو بعضاً، ولا بد في الوجه الأخير من تفسير الفضل والرضوان بما يناسب الفريقين، فقيل: ابتغاء الفضل أي الرزق للمؤمنين والمشركين عامة، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة، ويجوز أن يكون الفضلُ على إطلاقه شاملاً للفضل الأخروي أيضاً، ويختص ابتغاؤه بالمؤمنين { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَـٰدُواْ } تصريح بما أشير إليه بقوله تعالى: { وَأَنتُمْ حُرُمٌ } من انتهاء حرمة الصيد بانتفاء موجِبِها، والأمر للإباحة بعد الحظر كأنه قيل: إذا حَلَلْتم فلا جُناح عليكم في الاصطياد، وقرىء أَحْللتم، وهو لغة في حلَّ، وقُرىء بكسر الفاء بإلقاءِ حركة همزة الوصل عليها وهو ضعيف جداً.

{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } نهَى عن إحلال قومٍ من الآمِّين خُصّوا به مع اندراجهم في النَهْي عن إحلال الكلِّ كافة، لاستقلالهم بأمور ربما يُتوهَّم كونُها مُصحِّحةً لإحلالهم، داعيةً إليه. وجَرَم جارٍ مَجْرى كَسَبَ في المعنى وفي التعدِّي إلى مفعول واحد وإلى اثنين، يقال: جَرَم ذنباً نحوُ كسبَه، وجرَمتُه ذنباً نحو كَسَبْتُه إياه، خلا أن جَرَم يستعمل غالباً في كسْبِ ما لا خير فيه، وهو السبب في إيثارِه هٰهنا على الثاني. وقد يُنقل الأولُ من كلَ منهما بالهمزة إلى معنى الثاني، فيقال: أجرمته ذنباً وأكسبته إياه، وعليه قراءة من قرأ يُجرِمَنَّكم بضم الياء { شَنَآنُ قَوْمٍ } بفَتْح النون وقرىء بسكونها، وكلاهما مصدرٌ أضيف إلى مفعوله، لا إلى فاعله كما قيل، وهو شدة البغض وغاية المقت { أَن صَدُّوكُمْ } متعلق بالشنآن بإضمار لام العلة أي لئن صدوكم عامَ الحُدَيْبـية { عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } عن زيارته والطواف به للعمرة، وهذه آية بـيّنةٌ في عموم آمّين للمشركين قطعاً، وقُرىء إِنْ صدوكم على أنه شرط معترضٌ أغنىٰ عن جوابه (لا يجرمنكم)، قد أبرز الصدَّ المحقّقَ فيما سبق في معرِض المفروض، للتوبـيخ والتنبـيه على أن حقه ألا يكون وقوعُه إلا على سبـيل الفرض والتقدير { أَن تَعْتَدُواْ } أي عليهم، وإنما حُذف تعويلاً على ظهوره وإيماءً إلى أن المقصِدَ الأصلي من النهْي منعُ صدورِ الاعتداء عن المخاطَبـين محافظةً على تعظيم الشعائر، لا منعُ وقوعِه على القوم مراعاة لجانبهم، وهو ثاني مفعولَيْ (يجرمنكم)، أي لا يَكسِبَنَّكم شدةُ بغضِكم لهم ـ لصدهم إياكم عن المسجد الحرام ـ اعتداءَكم عليهم وانتقامَكم منهم للتشفّي، وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهياً للشنآن عن كسب الاعتداء للمخاطَبـين، لكنه في الحقيقة نهيٌ لهم عن الاعتداء على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه، فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤديةِ إليه نهيٌ عنه بالطريق البرهاني، وإبطالٌ للسببـية، وقد يوجِّه النهيُ إلى المسبَّب ويراد النهيُ عن السبب كما في قوله: لا أُرَيَنّك هٰهنا. يريد به نهي مخاطِبَه عن الحضور لديه، ولعل تأخير هذا النهي عن قوله تعالى: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَـٰدُواْ } مع ظهور تعلقِه بما قبله للإيذان بأن حرمة الاعتداء لا تنتهي بالخروج عن الإحرام كانتهاء حرمة الاصطياد به، بل هي باقية ما لم تنقطع علاقتُهم عن الشعائر بالكلية وبذلك يُعلم بقاءُ حرمة التعرضِ لسائر الآمّين بالطريق الأَوْلى.

{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ } لما كان الاعتداءُ غالباً بطريق التظاهرُ والتعاون أُمروا إِثْرَ ما نُهوا عنه بأن يتعاونوا على كل ما هو من باب البر والتقوى، ومتابعةِ الأمر ومجانبةِ الهوى، فدخل فيه ما نحن بصدده من التعاون على العفو والإغضاءِ عما وقع منهم دخولاً أولياً، ثم نُهُوا عن التعاون في كل ما هو من مَقولة الظلمِ والمعاصي بقوله تعالى: { وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } فاندرج فيه النهيُ عن التعاون على الاعتداء والانتقام بالطريق البرهاني، وأصل (لا تعاونوا) لا تتعاونوا فحذَفَ منه إحدى التاءين تخفيفاً، وإنما أَخَّر النهْي عن الأمر ـ مع تقدُّم التخلية على التحلية ـ مسارعةً إلى إيجاب ما هو مقصود بالذات، فإن المقصود من إيجاب تركِ التعاونِ على الإثم والعدوان إنما هو تحصيلُ التعاون على البر والتقوى، ثم أُمروا بقوله تعالى: { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } بالاتقاء في جميع الأمور التي من جملتها مخالفةُ ما ذُكر من الأوامر والنواهي، فثبت وجوبُ الاتقاءِ فيها بالطريق البرهاني ثم علل ذلك بقوله تعالى: { أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } أي لمن لا يتقيه فيعاقبكم لا محالة إن لم تتقوه، وإظهارُ الاسم الجليل لما مرّ مراراً من إدخال الرَّوْعة وتربـية المهابةِ وتقويةِ استقلال الجملة.