التفاسير

< >
عرض

لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ
٢٨
إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ
٢٩
-المائدة

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لأِقْتُلَكَ } حيث صدَّر الشرطيةَ باللام الموطِّئةِ للقسم وقدم الجارَّ والمجرورَ على المفعول الصريح إيذاناً من أول الأمر برجوعِ ضررِ البسطِ وغائلتِه إليه، ولم يُجْعلْ جوابُ القسم السادُّ مسدَّ جوابِ الشرط جملةً فعليةً موافقة لما في الشرط، بل اسميةً مصدّرةً بما الحجازية المفيدةِ لتأكيدِ النفي بما في خبرها من الباء للمبالغة في إظهار براءتِه عن بسْطِ اليد ببـيانِ استمراره على نفي البسط كما في قوله تعالى: { { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [البقرة، الآية: 8] وقوله: { وَمَا هُم بِخَـٰرِجِينَ مِنْهَا } [المائدة، الآية: 37] فإن الجملة الاسميةَ الإيجابـيةَ كما تدل بمعونة المقام على دوام الثبوت كذلك السلبـية تدل بمعونته على دوام الانتفاءِ لا على انتفاءِ الدوامِ، وذلك باعتبار الدوام والاستمرار بعد اعتبارِ النفي لا قبله حتى يردَ النفيُ على المقيّدِ بالدوام فيرفعَ قيدَه. أي والله لئن باشرتَ قتلي حسبما أوعدتني به وتحقق ذلك منك ما أنا بفاعلٍ مثلَه لك في وقت من الأوقات ثم علل ذلك بقوله:

{ إِنّى أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } وفيه من إرشادِ قابـيلَ إلى خشية الله تعالى على أبلغ وجهٍ وآكدِه ما لا يخفى، كأنه قال: إني أخافه تعالى إن بسطتُ يدِيَ إليك لأقتلك أن يعاقبَني وإن كان ذلك مني لدفع عداوتِك عني فما ظنُّك بحالك وأنت البادىءُ العادي، وفي وصفه تعالى بربوبـية العالمين تأكيدٌ للخوف. قيل: كان هابـيلُ أقوى منه ولكن تحرَّج عن قتله واستسلم خوفاً من الله تعالى لأن القتلَ للدفع لم يكون مُباحاً حينئذ، وقيل: تحرِّياً لما هو الأفضلُ حسبما قال عليه السلام: "كن عبدَ الله المقتول ولا تكنْ عبدَ الله القاتل" ويأباه التعليلُ بخوفه تعالى إلا أن يُدَّعىٰ أن تركَ الأَوْلى عنده بمنزلة المعصية في استتباع الغائلة مبالغةً في التنزه، وقوله تعالى: { إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } تعليل آخرُ لامتناعه عن المعارضة على أنه غرَضٌ متأخِّرٌ عنه كما أن الأولَ باعثٌ متقدِّمٌ عليه، وإنما لم يُعطفْ عليه تنبـيهاً على كفاية كلَ منهما في العِلّية والمعنى إني أريد باستسلامي لك وامتناعي عن التعرّض لك أن ترجِعَ بإثمي أي بمثل إثمي لو بسطتُ يدي إليك وإثمِك ببسط يدِك إليّ، كما في قوله عليه السلام: "المُسْتَبَّانِ مَا قَالاَ فَعَلَى البَادِىءِ مَا لَمْ يَعْتَدِ المَظْلُوم" أي على البادىء عينُ إثمِ سبِّه ومثلُ سبِّ صاحبه بحكم كونه سَبَباً له، وقيل: معنى (بإثمي) إثمِ قتلي ومعنى (بإثمك) إثمِك الذي لأجله لم يُتقبَّلْ قُربانُك، وكلاهما نصب على الحالية أي ترجع ملتبساً بالإثمين حاملاً لهما ولعل مرادَه بالذات إنما هو عدمُ ملابستِه للإثم لا ملابسةِ أخيه له، وقيل: المراد بالإثم عقوبتُه ولا ريب في جواز إرادة عقوبةِ العاصي ممن عَلِم أنه لا يرعوي عن المعصية أصلاً، ويأباه قولُه تعالى: { فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ } فإن كونَه منهم إنما يترتّب على رجوعه بالإثمين لا على ابتلائِه بعقوبتهما، وحملُ العقوبة على نوعٍ آخَرَ يترتّبُ عليها العقوبةُ النارية يردّه قوله تعالى: { وَذَلِكَ جَزَاء ٱلظَّـٰلِمِينَ } فإنه صريحٌ في أن كونه من أصحاب النار تمامُ العقوبة وكمالُها، والجملة تذيـيلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبلها، ولقد سلك في صَرْفه عما نواه من الشر كلَّ مسلك من العظة والتذكير بالترغيب تارةً والترهيب أخرى، فما أورثه ذلك إلا الإصرارَ على الغيِّ والانهماك في الفساد.